بحث

ضباب

"كان هكتور في قاع الموجة، الموجة التي كانت بنفسها في قاع المحيط، المحيط الذي كان بنفسه في قاع الكون ، ثمة أمر ما يجعله يشعر بأنه صغير"

شهر

فيفري 2017

جغرافيا بديلة

طلب مني أستاذي في الجامعة، أن أكتب نصاً عن اليوم الأول لي في جامعة الكويت. على أن يكون النص قابلاً لأن يُقرأ في فيلم وثائقي عن هذا الموضوع. هذه هي المسودة الأولى. بعنوان : جغرافيا بديلة.

في اليوم الأول لسفري كان الجو ماطراً، ما زلت أتذكر الحشود التي تصعد الى الطائرة، كنتُ ضئيلة حينها، ولا أعرف لما حسمتُ أمر ألا أعود دون أن أتخلص من كل الأعباء التي ألقتها تربيتي علي. كنا قد وضعنا حدوداً للتعامل مع كل شيء، أشكالاً ونماذج لصور التعامل مع الآخرين وذواتنا، وكلما اقتربنا من ذواتنا كما هي، صادقة وعارية من التزييف، ضربنا أبي بعصا صنعها من سعف النخيل في قريتي البعيدة. كان يربطنا في عود النخلة، يتركنا قليلاً هناك، يذهب لساعات ثم يعود مستعداً لضربنا. تلك الساعة التي كنتُ اقضيها لوحدي، كانت كل رصيدي من التأمل ومحاولة فهم الحياة. أستعيد كل هذه التفاصيل عندما أصعد السلم الى الطائرة. تحييني المضيفة الفاتنة بابتسامة آلية، وضعتها على محياها تقديراً لمتطلبات العمل، كم يحزنني أنها تضطر لهذا، ويسعدني أنني من حظي بفرصة الرد عليها بابتسامة أخرى.
أمشي في الممر الطويل للطائرة، أبحث عن مقعدي مثلما كان براد فرانكل يبحث عن مقعده في فيلم “الحياة في مكان آخر”، أجلس وأبدأ بقراءة التعليمات التي وضعت في ظهر المقعد الذي أمامي، أقرأها لأقضي الوقت بينما نقلع، لستُ من النوع الذي يخاف فقدان حياته. كنتُ دائما مستعدة لأن أرحل دون عودة.

بينما تهبط الطائرة في الكويت، كان رأسي يطن، وعيناي غائرتان، لابد وانه استقبال حافل، قلتُ لنفسي، عندما نزلت في مطار الكويت لأول مرة، كان كل شيء مألوفاً، هذا ما تخيلته تماماً، والأهم من هذا كله، ان لا احد يلاحظني بعد الآن، انني اذوب في الحشود، الناس على اختلاف مشاربهم واذواقهم يمشون دون ان يلتفت احدهم للاخر، اشاهد الكثير من النساء اللواتي يضعن خماراً لتغطية الوجه، مثل أمي تماماً، والكثير من النساء اللواتي اخترن الوانا صارخة للشعر والمكياج. كان الجو بارداً، وهذا ما لم اعتده في قريتي ، فحتى وان كانت درجة الحرارة في أدنى مستوياتها، لم يكن ثمة داعٍ لارتداء الملابس الشتوية. فجأة شعرت بالدوار وانا ادخل من بوابة “القادمون” كانت الجماهير الغفيرة تنظر اليّ، كلٌ منهم ينتظر قريباً او صديقاً، كانت تلك الدقائق اشبه بقرن كامل.

الكويت، الشوارع المتهالكة، الجسور التي تضع إعلانات لمنتجات رديئة او لكراجاتٍ في الجوار، زحام السيارات، وضجيج مكبرات الصوت في السيارات الفارهة، الكويت ليلاً بينما تنام قريتي في هدوئها الأول، في وحشتها التي لا تتغير.

وصلتُ الى غرفتي، كدت أطفو في الهواء، لفرط الخفة والسرور، لم أمتلك يوماً مكاناً لي وحدي، ولطالما شعرت ان الأمان الحقيقي هو أن تتمكن من امتلاك غرفة بمفتاح يخصك لوحدك، في القرية كنت مع ثلاثة من اخواتي، بمزاجات مختلفة، وجداول حياة متباينة، أخرجتُ دفتر مذكراتي، طويلٌ وسميك، وفي طرف الورقة كتبتُ التاريخ، ووقفت بعدها عند النافذة، اشاهد ليل الكويت وهو لا يغلب أعمدة الانارة وأضواء البنايات العالية التي توشك على أن تكون وحشاً سيلتهمك في الحال.

لم أنم في تلك الليلة، كنتُ أحس بالأشياء أكثر من المعتاد، والذي يسلم رايته لمشاعره لابد وانه يسلم دفة القيادة لدمه، دمه الذي يندفع دون رادع، هكذا ذهبت الى الجامعة في اليوم الاول، مدفوعة بحرارة لا مثيل لها لعيش الحياة كما اريد.
راقبتُ فك المدرس وهو ينطق بالكلمات، بلكنة تبدو لي ثقيلة، يأمرنا الآن أن نتأكد من انضمامنا لهذا الصف. يوزع علينا اوراق توصيف المقرر، مادة ” مقدمة في الجغرافيا السياسية”

عندما كان يتحدث، لم أكن استطيع سماع صوته، كان كل شيء مموه في مخيلتي، بينما كان يتحدث عن البحر الأحمر، وقناة السويس، كانت أشجار النخيل السامقة في قريتي تتكاثر على نحو غريب، بدأت اشاهد وجوه من في الصف كما لو أنهم يشاركون في جريمة ضربي وأنا مربوطة هناك، كنتُ لا أسمع شيئاً، صوت العصافير يخفف علي وطأة الضبابية. استيقظت من حلم ثقيل وانا في استراحة الكلية. كان كل شيء رائعاً، الطقس ربيعي والأحلام مازالت تنتظرني في مكان ما في هذه الجامعة.

متابعة القراءة “جغرافيا بديلة”

لوحة عن الحياة تُلمحُ لجدي والشعر.

عندما أفتح هذه الورقة للكتابة، أدرس كل الإمكانيات التي ستخفق مجدداً، أخفف اضاءة جهاز الحاسب الآلي، لكي يبدو هذا البياض الذي يواجهني أكثر انسجاما معي، مائل لزرقةٍ خافتة، أزرق في طريقه لكي يكون رمادياً يوماً ما، أو أسود تماماً اذا ما قررتُ أن أتوقف عن الكتابة وأغلقت الحاسب الآلي، هكذا دون تردد.

متابعة القراءة “لوحة عن الحياة تُلمحُ لجدي والشعر.”

سيدة من أرض نجد ترتدي ثوباً ملوناً

من وحي سيدة تحب الأشجار وتبكي هذه الليلة، فيتكاثف سواد الليل في غابات تمتد الى أرض بعيدة. من وحي صديقتي التي أحب، كتبتُ هذا النص، لأوثق كل هذا البكاء وكل هذه الهشاشة.

….

غمامةٌ من اللون الأخضر تطوق المكان، يدٌ نحيلة تمتدُ الى الكتاب على الطاولة، تقرأ كتاباً عن النخل، لا نعرف كيف تحب هذه السيدة الصغيرة كل هذا اللون، ربما هي تفعل، مثلما تحب سيدة آسيوية أن تبدو عينيها أكبر مما هي عليه، مثلما يحب فنان ان يرسم لوحة انطباعية عن لحظة تواري السماء “تماماً” خلف سحبٍ كثيفة، مثلما تظهر تكشيرة على وجه ممثل في المشهد المناسب، ويصبح على اثرها نجماً لامعاً، مثل كل الأشياء الناعمة التي تتسلل كالرمح في جدار ظنناه صلباً وعاجزاً، مثل لون دافئ في حلقة الخياطة لسيدة عجوز صارت تميز أن هذا اللون لابد وأن يفاجئ توقد الخيوط الأخرى في معركة وجودها، تعرف اللحظة المناسبة لكي تطعم خياطتها هذا الهدوء، هذا الصوت الخافت والذي سيصرخ أكثر من البقية.

هذه السيدة القادمة من صحراء نجد، تحب اللون الأخضر، وتبدو لي في أحلام يقظتي وكأنها تستخدم ورقة شجر الموز الكبيرة كملحفة.

 

تقوم السيدة من مكانها، الأرض لا تحس بها، لا لفرط الخفة، وإنما للونها الذي لا يعرف الصمت كما يَطلبُ منه الجميع أن يفعل، وسيظنُ الناس أنها استعارة إذا ما قلت انها عندما تحزن تشرب الكثير من الماء كي لا تبكي. تضع كتابها على المنضدة، ترتب ما تركته في الليلة الماضية، عبوات الماء بجانب طلاء الأظافر بألوانه الثلاثة الفاتحة، وينتابها في تلك اللحظة على وجه التحديد، شعور بغيابها وتبدو غير متأكدة من الضفاف التي ظلت ترطبُ أقدامها فيها، وتخسر طاقتها في هذه الفكرة، ويبدو العالم بالنسبة لها كما لو انه مثل ام توهمت أن طفلها نطق كلمته الأولى، كان الطفل قد نادى شيئاً لكنها ظنت أنها كانت تتوهم. وكضباب لا يمكن ملاحظته على زجاج السيارة الأمامية، ترتكب هذه السيدة الأمل من جديد. فتجترح من كل شيء إسماً جديداً، من الصحراء، من البادية، من امثولات جدتها، من مفردات لهجتها، من القبيلة، من القانون الذي يحطم النساء في بلادها، من الحافلات التي تقل المعلمات في ساعة مبكرة من الفجر، من المحلات التي تضع أسماء أصحابها الرباعية في اليافطة الخاصة بها، ومن كل فسحة صغيرة لقول لا على هذا كله، أو نعم بلون أخضر.

 

بينما تمشي الى غرفتها في آخر الممر، لا تتعثر الا بلونها، لكنها لا تبالي، فهذا الخطأ السخيف الذي ما ينفك أن يتكرر، ينفرط مثل مفردات لا معنى لها في محاولة رديئة لكتابة قصيدة جيدة، تمشي دون أن تتخايل كنوع من مقاومة رصينة تتخيلها لنفسها إذ أن قلبها مائل بما يكفي، كانت مشاءةً محترفة، لم يظن احد انها ستشارك يوماً في أي سباق، لأنها تمشي بتباطؤ قل نظيره في هذا الزمن، لا اعرف لم ظلت تطرق أبواب الغرف في ذلك الممر وتنادي مثل “بانديتي” في “ملحمة جون فانتي” بصوت مسعور : الايام الكئيبة الحزينة، الايام الكئيبة الحزينة، الايام الكئيبة الحزينة. وكانت تلك الكآبة لاتشبه كل ما عرفه أهالي شبه الجزيرة العربية عن هذا النوع من الحزن اذا أنها كانت وبشكل مرعبٍ اياماً كئيبة وحزينة وم ل و ن ة.

 

أنشئ موقعاً أو مدونة مجانية على ووردبريس.كوم.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: