بحث

ضباب

"كان هكتور في قاع الموجة، الموجة التي كانت بنفسها في قاع المحيط، المحيط الذي كان بنفسه في قاع الكون ، ثمة أمر ما يجعله يشعر بأنه صغير"

شهر

أفريل 2017

الأخوين والخراف

عندما دخلت الجرافات الى حوش البيت في قرية شمالية بعمان ، استعداداً لاقتلاع اشجار النخيل اليانعة ، ليتمكن الابن من بناء بيته هناك بعد ان تقدم به العمر ، بكت أمه كثيراً ، ولولا انني شهدتُ هذا بأم عينيّ لما صدقت ابداً ذلك الحزن الذي احدثه صوت الجرافات وتقدمها نحو هدفها ، ان وجع خسارة هذه الأشياء كبير جداً ولا يمكن احتماله . عويل الأم نبه الجيران ، لأن هذه التي كانت صامتة طوال الفترة الماضية ، ازاء كل الآلام وامتحانات الحياة كخسارة زوجها واحد ابنائها لم تعد قادرة على تمالك نفسها وهي تشاهد النخيل تجتث من تربتها ، فلقد واثبت على رعايتها ، حتى انها اطلقت عليها اسماءً تميزها ، وتحدثت معها طويلاً . هكذا هو حال الإنسان المرتبك في هذا العالم والذي لا ينفك من البحث عن المعنى ، دافعاً كل امكاناته من أجل تقفي ذلك الشيء الذي سيشغف به او سيقضي معه بقية حياته تزجية للوقت . فهنالك من يربي الحيوانات ، وآخرون ينجبون الكثير من الأبناء ، والبعض يقضي حياته مسافراً من مكان لآخر ، وغيرها من المشارب التي تحصل على مجنديها اين وكيفما كانت . لكن مالذي سيحصل لو أن الإنسان فقد هذا الشيء الذي وجد برفقته متعة الحياة ولطفها ؟ في الفيلم الهندي Guzaarish لمخرجه Sanjay Leela Bhansali والذي انتج عام 2010 تعرض ساحر لحادث أثناء تقديمه لأحد العروض السحرية مما تسبب في شلله وعدم قدرته على الحركة ، تقدم حينها بطلب للمحكمة يطلب فيه تنفيذ حكم القتل بدافع الرحمة . لا يبدو هذا غريباً فلقد قضى الساحر جل حياته في ممارسة العابه السحرية وكرس حياته لأجل عمله هذا فإن هو فقد هذا العمل مالذي سيحصل له ؟ وكيف يمكن احتمال الفراغ الذي يلسع ببرودته في تلك المنطقة التي لا يعود للانسان فيها ما يملكه وما يسليه . هذا هو موضوع الفيلم الايسلندي الرائع Rams لمخرجه Grimur Hakonarson والذي تم انتاجه عام ٢٠١٥ . 
تحكي القصة عن علاقة اخوين لم يتحدثا منذ اربعين عاماً في احدى قرى ايسلندا الفاتنة بطبيعتها الساحرة ، تدور حياة هذين الأخوين حول تربية الخراف ، ويدخلان في سباق لتحديد صاحب الخروف الاكثر صحة وتألقاً. وفي بداية اجتماع اهل القرية السنوي للاحتفال بتويج الخروف الفائز يقرأ احد الحضور قصيدة في مديح تربية الخراف يقول فيها : 
“لا شيء أكثر أهمية في أي وقت مضى لهذه الأمة

من البقاء على قيد الحياة

في أرض الجليد والنار

وفي كل حالة

قوية وصعبة لـمواجهة كل المحن

لألف سنة يا صديقي ولانقاذ البشرية

كل يوم.

في الفرح والمعاناة

تتشابك حياة الغنم مع راعيها وعمله الشاق ومثابرته

إذا كانت أغنامنا سعيدة

الشمس ستدفئنا ويباركنا الرب

إذا كانت أغنامنا غير راضية

ستظلم وتغدرنا ليالينا ”
ومن هنا تنطلق حكاية اكتشاف العلاقة بين مزرعة الفلاحين في هذه القرية وخرافهم ، وذلك التنافس الشرس بين الاخوين لتفوق كل منهما على الاخر . يظهر الفيلم وعلى الرغم من ايقاعه الهادئ ، خاطفاً للأنفاس ، خصوصاً بعد ان تحل المصيبة على فلاحي مزارع هذه القرية . والتي يضطر فيها الاخوين لمواجهة بعضهما . غودموندور بودفارسون الأخ المتوحد بطل هذه القصة والذي ادى دوره الممثل Sigurður Sigurjónsson يعيش حياته كلها مع خرافه ، حتى انه يحتفل بليلة عيد الميلاد لوحده على الرغم من ان اخوه يشاركه نفس المزرعة ويفصل بينهما سياج وحيد يمكن اجتيازه بسهولة كما سنرى خلال سير قصة الفيلم . 

الفيلم منذ البداية وحتى آخر مشهد يثير الشاعرية والدفء ، كل تفاصيله حميمة بداية بمشهد الريح التي تحرك الاعشاب والاشجار في المشهد الاول وحشود الخراف ، وملابس الناس وتسريحاتهم ، قميص جومي الممزق ، والكلب الذي يوصل الرسائل المتبادلة بين الأخوين ، مناظر القرية ساحرة للغاية ، حتى عند حلول الشتاء ، تلك اللوحات التي التقطها المخرج بالغة في التأثير ، عندما كنت اشاهد الفيلم تمنيت لو انني هناك وسط تلك المراعي البيضاء فيما شعرت صديقتي التي شاهدته بصحبتي انها مستاءة من منظر الثلوج ، بل انها تشعر بالكآبة من هذه الصور ، وهذا ان دل على شيء يدل على نجاح تلك الصور في لمسنا في الاعماق . وعلى الرغم من ان هذه الصور قاتمة في هذا الفيلم الا ان كثيراً من الجمهور اعتبروه فيلماً كوميدياً في بعض اجزائه ، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لي ، لقد كان اكثر شفافية من ان ينحاز الى الدفع بأي عاطفة كانت ، انه صادق جداً ، واقعي ، لا يستند على الاحداث الخارقة ، انها تجيء كيفما اتفق لها ان تكون في اي مكان .
نال الفيلم العديد من الجوائز وتقييمات عالية من النقاد والجمهور قال عنه المخرج Tom McCarthy مخرج فيلم SPOTLIGHT :” لقد سحرني في البداية ، ثم ما لبث مع تصاعد الاحداث بأن أثارني عاطفياً ، وهذا لا يحدث كثيراً ، لقد الهب عاطفتي فجأة” .

الكاميليا منزوعة البتلات

ارتبطت زهرة الكاميليا بالكثير من الأساطير ، واحدة من هذه الاساطير هو افتراض الفأل السيء فيما لو سقطت الزهرة كاملة دفعة واحدة ، فهذه الزهرة دون غيرها اتفق على انها تخسر في كل مرة بتلة من بتلاتها ، خصوصاً كاميلية تسوباكي – ديرا ، والتي كانت عبارة عن شجرة كبيرة ، يقال ان عمرها اربعة قرون وتحمل الواناً مختلفة من الأزهار ، وبدلاً من ان تتساقط دفعة واحدة ، كانت تسقط بتلاتها لذلك سميت بـ”الكاميليات منزوعة البتلات” . هكذا يجري الأمر اذن بالنسبة لنا نحن البشر ، اننا تلك الزهرة التي تخسر في كل يوم جديد بتلة من وجودها ، لأننا نخسر الزمن الذي يمضي الى حتفنا دون هوادة ، وهذا هو موضوع رواية الجميلات النائمات للياباني ياسوناري كاواباتا . حيث نتتبع مع الكاتب سيرة الشيخوخة الحزينة ، الوقت الذي يفقد فيه الإنسان رغبته ، والذي يعرف فيه انه بات مجرداً من اندفاع الشباب وذلك الإلحاح على طلب المتع وتلبيتها . 
لطالما اعتبرت الرغبة ، سؤالاً لم يكف الانسان عن الدوران حوله بغية الإجابة عليه ، لأن الرغبة دفعته الى ان يفعل اشياء كثيرة تقوم عليها حضارتنا اليوم ، ولانها تمثل السوط الداخلي الذي يعذب الانسان لتدفعه حتى لإرتكاب الرذائل ، عينت على انها السبب في الإنحراف ، حتى ان الكثير من القراءات ترجع بداية الصراع بين البشر الى صراعهم على نيل مقربة النساء ، وفي قراءات اخرى رأينا كيف ان النصوص الدينية تقول بأن سبب نزول الإنسان من الجنة هو انجرافه وراء رغبته في تناول فاكهة الشجرة المحرمة ، فما كان من الكثير من الاديان الى النزوع الى التعامل مع هذه الرغبات إما بفرض التشريعات لاحاطتها ، او الحرص على مقاومتها كلياً كما هو الحال في الديانة الهندوسية التي يتخلص رجال الدين فيها من رغباتهم وينطلقون في الارض الخلاء ، برداء برتقالي دون ان يستقروا في مكان ودون ان يرغبوا حتى في تناول وجبات الطعام الفارهة ، وانما يكتفون بما اعطي لهم من المحسنين ، حتى انني قرأت مرة عن رجل طرق باب امه ومد صحنه ليأخذ نصيبه من الطعام ، فأدخلته الأم الى بيتها ولم تكن قد تعرفت عليه بعد ، جلس يحدق في امه مقاوماً رغبته في التعريف بنفسه ، فلقد اخذ منه الدين جسده وعافيته ، وتغطى وجهه بالشعر الكثيف ، هكذا حتى غادر بيت أمه دون ان يحتضنها ، وكل ما سعى اليه هؤلاء هو الوصول الى حالة النيرفانا التي يطفأ فيها سعي الانسان ويصل بها الى خلاصه الأعلى . ومن هذا كله نستنتج دور الرغبات في تحديد سلوك الانسان بل وفرض التحديات عليه ، والآن ماذا سيحدث لنا لو اننا فقدنا رغبتنا بأي شيء ؟ والسؤال الاهم ماذا لو انتزعت هذه الرغبة منا انتزاعاً بفعل الزمن؟ اما السؤال الاكثر قسوة والذي يواجهه الانسان يومياً : ماذا لو أننا رغبنا لكننا ورغما عنا لم نتمكن من تلبية هذه الرغبة ؟ هذا ما حصل مع العجوز ايغوشي بطل رواية الجميلات النائمات لكاتبها الياباني ياسوناري كاواباتا ، اول ياباني يحصل على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٦٨. هذه الرواية التي تمنى الكاتب الكولمبوي الأشهر غابرييل غارسيا ماركيز لو انه كتبها ، والذي كتب لاحقاً رواية استلهمها منها وهي ذكريات غانياتي الحزينات . 

قرأت في البداية رواية ماركيز ذاكرة غانياتي الحزينات بترجمة صالح علماني واعجبتي كما لم أتخيل فأنا لست من محبي ماركيز ولا الواقعية السحرية ، التهمتها دفعة واحدة ، ففي هذه الرواية رجل تسعيني غامر في الدنيا كثيراً وها هو يريد الاحتفال بعيد ميلاده بالقرب من صبية يافعة ، هذا هو موضوع القصة كلها لكن ماركيز يأخذنا فيها الى اعمق ما فينا ، الى تلك المشاعر الدفينة عن الرغبة والحب والتقدم في العمر ، اصابتني حماسة لا مثيل لها لقراءة الرواية التي ألهمت ماركيز لكتابة رائعته هذه ، فكان ان بدأت بقراءة رواية الجميلات النائمات ، وهي عن قصة منزل ، يرتاده الاغنياء واصحاب النفوذ وهم طاعنون في السن للبيات مع فتيات صغيرات في السن ، لكنهن نائمات طوال الوقت . ايغوشي الذي تلقى دعوة من احد اصدقائه العجزة ، يعتبر ان هذا المنزل يحرجه ويجرحه في الاعماق حيث انه لم يصل بعد الى سن العجز الذي يمنعه من التمتع وتلبية رغباته . لكنه وفي كل يوم يمر على كراهيته لهذا البيت والقانون فيه ، يصر على ارتياده اكثر من السابق . وتبدأ الكثير من الأحلام ترواد ايغوشي ، حول انتهاك قانون البيت والتسبب في المتاعب ، فقانونه ينص على ان لا يتم ايقاظ الفتيات تحت اي ظرف من الظروف ، حيث لا يمكن هذا بأي شكل من الاشكال نظراً لتناول الفتيات لمنوم قوي ، وفي هذه الاثناء بدلاً من ان يخلد ايغوشي في النوم بجانب صبية عذراء ، يقضي الليل كله وهو يفكر في عجزه وفي شبابه الذي انقضى وفي كل الفتيات اللواتي تعرف عليهن في حياته ، حتى انه يسأل من هي أول إمرأة عرفتها ، فيتذكر امه على نحو يجعله يخجل من مواصلة التفكير في النساء اللواتي رغب بهن . في الحقيقة لم تعجبني رواية ياسوناري كاواباتا كما اعجبتني رواية غابيريل غارسيا ماركيز ، حتى ان هذا اثار لدي فضولاً لاعادة كتابة الكثير من الروايات اللواتي احببتها . وحول علاقتي بالادب الياباني فأنا احب الفاتنة اغوتا غاوا بقصصها الاثيرة والدافئة والتي تتناول اليومي والمألوف لتجعل منه نثراً بالغاً في التأثير والجمال ، كما قرأت لمواطنها ميشيما روايته القناع وهي رواية جميلة وتناقش موضوعاً مهما للغاية ، بقي هاروكاي موراكامي الذي يظهر تأثره بماركيز لكنه بالنسبة لي لم يكن لافتاً خصوصاً في روايته كافكا على الشاطئ ، حيث يدخل مراهق في جملة من التحديات اثناء هروبه من بيت والده . 

“شعرت بأني أبصق قلبي”

تستطيع بعض الأعمال الروائية أن تقدم نفسها للقارئ من السطر الأول ، وهذا ان ادل على شيء فهو بلا شك يشير الى مقدرة الكاتب ووضوح الممر الى تجربته ، في بداية رواية “غرفة مثالية لرجل مريض” ليوكو أوغاوا تكتب : “” حين أفكر في أخي الأصغر يدمي قلبي كرمانة مفلوقة، أسأل في سرّي لماذا. ” وفي بقية الرواية ، نلمح عذابات القلب المنشطر كرمانة مفلوقة لا المتشظي كشيء انفجر فقط ، وفي رواية الغريب لألبير كامو يكتب كامو في الجملة الافتتاحية المرعبة : “توفيت أمي اليوم، أو ربما بالأمس لا أدري. فقد تسلّمت البرقية التالية من الوطن: توفيت الوالدة. الجنازة غداً. المخلص لكم. هذا لا يعني أي شيء فربما ما حدث كان بالأمس” ، كذلك يبدأ عمل الكاتبة الأمريكية الشهيرة أنايسس نن ، ففي بداية عملها الذي انوي الحديث عنه في هذا المقال وهو “بيت المحرمات” تكتب انايسس نن : كانت رؤيتي الأولى للأرض مغشاة بالماء. إنني من ذلك العرق من النساء والرجال الذي يرى كل الأشياء عبر هذه الستارة البحرية ، وعيناي بلون الماء” . ولن يفوتنا أبداً أن نتوقف عند هذه الافتتاحية ، متوقعين ما سيأتي بعدها ، فلماذا قد تبدأ أنايسس نن بالماء هذا الذي أخضعه غاستون باشلار للتحليل النفسي في كتابه الشهير ” الماء والأحلام : دراسات عن الخيال والمادة” فهو يقول “ما أقسى عذاب الماء” ويبدأ في رصد دلالات الماء في الكثير من الأعمال الأدبية وأقتبس له منها : “الوداع على شاطئ البحر أكثر ضروب الوداع تمزيقاً، وأكثرها أدبية معاً. لأن شِعر الوداع يستغل أعماقاً قديمة للحلم والبطولي. ويوقظ فينا من دون شك الأصداء الأكثر إيلاماً. ذلك أن أسطورة الرحيل على الماء توضح جانباً كاملاً من نفسنا الليلية. والانعكاسات في نظر الحالم متصلة بين هذا الرحيل والموت. والماء في نظر بعض الحالمين، هو الحركة الجديدة التي تدعونا إلى السفر الذي لم يتحقق إطلاقاً. هذا الرحيل المتجسد ينزعنا من مادة الأرض. وعليه، يا لها من عظمة مدهشة يمتلكها هذا البيت الشعري لبودلير، هذا الصورة المباغتة التي سرعان ما تمضي إلى قلب سرنا الخفي: أيها الموت، أيها البحار العجوز، لقد آن الآوان! فلنرفع المرساة!”. فكيف من الممكن أن تنظر أنايسس نن للعالم من خلف ستارة بحرية؟ ألا يعني هذا ميوعة هذا العالم وسيلانه المستمر في نفس هذا الشاخص أمامه ، الذي يحاول بلا هوادة أن يكون صلباً بقدر ماهو العالم متطرف في خصومته المادية ، لكن هشاشة الواقف أمامه الداخلية تغلب المراد ، وقلبه السائل لا يمكن الا يرى الا شقوق الحياة وتصدعاتها الكثيرة ، إن الأمر يشبه تماماً ان تمسك بصنبور ماء على الدوام وأن تكون وظيفتك الأولى هي ان تسقي كل شيء حتى الجمادات ، وكم هذا متعب ومضني فهو يتطلب قدراً هائلاً من اليقظة والالتزام ، ان هذا هو الشعر ، و ما يميز الشاعر عن غيره . 

تقول أناييس عن نصها هذا ، في مقدمة الكتاب “لقد شعرتُ بأني أبصق قلبي” ، وكلما تقدمت في قرائته تأكدت من ذلك ، فالكاتبة لا تترك شيئاً دون ان تشير إليه والى علاقته بها بداية من الليل والنهار ، سكون الفجر ورماديته و أمواج الظلمة المتلاطمة في المساء . وحتى انزعاجها من النظر الى الأشياء المشتركة بثيمة واحدة ، كأنما تريد ان تقول لنا حجم الهشاشة التي تتلبسها أمام شيء متماسك الى هذه الدرجة . وتكتب أنايسس: “ثمة رمادية ليست بالرمادية الاعتيادية . انه سقف رصاصي كبير يغطي العالم مثل غطاء مقلاة الحساء” ، ان هذا النص يفيض بالشعر وحده ، والذي لا يحاول التنظير لموقف انايسس من العالم كما هو الحال في أعمال وجودية شهيرة ، اشتهرت بسخطها من الحياة ، إنه ببساطة سرد ذاتي جداً وحميم لما حدث لها ، حتى ان هذا النص لا يخلو من التماعات الأمل ومكابداته ، مثلما يحدث لانسان خسران يحدث نفسه ، وينتهي به الأمر في محاولات للقيام مجدداً ، لأن التسليم مهدد ومرعب ، لكنه يكتشف أن حجم خساراته اثقل من قدرته على الوقوف مجدداً . والغريب في الأمر أن انايسس نن اشتهرت بعلاقتها مع الروائي الأمريكي “هنري ميللر” وهذا يدعو للتعجب لأن القارئ لميللر خصوصاً لثلاثيته بأميز عمل فيها “مدار السرطان” والذي لا يكف فيها عن استخدام الكلمات النابية وافظع الشتائم ليصم الحياة والعالم . لقد كانت انايسس محطمة على خلاف الظاهر لهنري ميللر ، كانت اضعف من ان تسخر ، وأجزم بعد قراءة يوميات انايسس نن المترجمة عن دار أزمنة الارنية ، أن انايسس كانت تستند على هذه القدرة على المواجهة في هنري ميللر ، أما هو فلقد استكان الى غموضها الناضج ، والذي يختبئ ورائه بلا شك هذا الألم السائل على الدوام ، تكتب في يومياتها ” ااني حساسة إزاء أي وجه أقابله في الشارع ، وكل ورقة شجر وكل سحابة وكل شكل من أشكال الحب.. اثمة امرأة كونية تحيا في أعماقي؟” و ” تبدأ معظم الأماسي العابثة على نحو طيب . أبدأ معها بإزدهاء وجذل وانشراح وفضول وحب للمغامرة غير ان متعتي وراحتي تبدأ بالتناقص والزوال ، السخرية ، الهزل. السفاهة كلها تحيل دمي الى جليد ، وكأنني اشهد فصولاً من السادية” ، نقرأ في اليوميات عن أفكار انايسس المتعلقة بالكتابة والابداع والحرب و حقوق المرأة ، اعتقد انها واحدة من اجمل اليوميات التي قرأتها مع كتاب “مذكرات فتاة رصينة” لسيمون دي بوفوار الفيلسوفة والروائية الفرنسية . 

أنشئ موقعاً أو مدونة مجانية على ووردبريس.كوم.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: