أنا أعرف عبدالله حبيب جيداً، لا لأنه حدثني عن ذلك، لأنني وفي واقع الأمر لم ألتقِ بعبدالله بشكل شخصي ولا لمرة واحدة، كانت كل اللقاءات عابرة، إما في الفعاليات الثقافية أو في مكتبة روازن، ومرة واحدة لا أنساها، كان كمن ضيع شيئاً، كمن ينتظر أحداً، في ستاربكس سيتي سنتر السيب. يومها كنت أمشي مع عهود، قلت لها عبدالله عبدالله! ، مشينا إليه، قلتُ له: أمسكنا بك أيها الرأسمالي!

أعرف عبدالله حبيب جيداً لأنني قرأت كل كتبه التي تمكنت من الوصول إليها: تشظيات أشكال ومضامين، فاطمه، ليلميات، كما البحر يمحو، مفاتيح ضئيلة وسماوات واسعة، مسائلات سينمائية، الفراغ الأبيض الذي سيلي، وترجمة كتاب ملاحظات في السينماتوغرافيا، وهذا الأخير قارنته مع ترجمة حديثة لنفس الكتاب، أعرف عبدالله لأنني قرأت كل محتوى يخصه على الإنترنت وطبعت مقالاته من شرفات التي لم أتحصل عليها مطبوعة، أعرف عبدالله حبيب لأنني في كل مرة أقرأ له مقالاً كتبه في ٢٠٠٩ مثلاً، أبتسم لأنني حينها ما زلت على مقاعد المدرسة، وأن عبدالله كان كما هو اليوم، لكنني لم أكن أعرف شيئاً عنه بالمرة. أعرف عبدالله حبيب لأنني أحب النحت في الزمن لتاركوفسكي وأحب فيلمه الحنين، وأستطيع بقليل من الصبر واللغة البسيطة أن أقول لكم لماذا يحب عبدالله فيلم القربان أكثر من أي فيلم آخر، أحب عبدالله جداً لأن عبدالله يفهم تماماً لماذا قد يكون ثيوأنجولوبولس مخرجي المفضل، ولماذا أنا متعلقة جداً بعباس كيارستمي. لهذا كله أنا أعرف عبدالله. في إحدى زياراته المتكررة لروازن سألته بعد أن أخبرني باعتذاره عن فعالية دعي لها من مؤسسة ثقافية صديقة في إحدى دول الخليج، كنت أنا من شاركتهم رقم هاتفه، عن أسباب بقائه في عمان، رغم كل الفرص التي عرضت عليه ليكون مدرساً في جامعات مهمة، كانت وثائقه الرسمية مصادرة في ذلك الحين، قال لي: أسباب كثيرة ومشاكل عصية، وقال أيضاً ومهما يكن يا أمل: ب”لادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ .. وأهلي وإن ظنوا علي كرامُ.” هنا شعرت بأنني لا أعرف عبدالله أبداً، وخفت كثيراً، ذلك أنني توقعت هذا البيت من كل أحد، إلا من مغترب أفهم جيداً علاقته بالعالم من حوله، تعود أبي أن يقول هذا البيت منذ نعومة أظافري وهو رصيد أبي الوحيد من الشعر، إذ أن حياته الصعبة سرقته تماماً، على الرغم من شعريته هو نفسه. وفكرت ملياً في ذلك البيت، ولم أستنتج سوى أنني ضعيفة، أضعف من عبدالله، فالتخلي بالنسبة لي أمرٌ سهل، وأحسب أن ذلك قوة، لكنه ليس كذلك على الإطلاق، الحب هو أقوى ما يمكن أن يحدث في هذا العالم، وأن تستمر في حب وطنك مثلا يتطلب ذلك قدراً كبيراً من الجسارة والنبل، لذلك افتتح عبدالله حبيب نصاً له في كتاب التشظيات ببيت لأبي تمام: ( كم منزل في الأرض يألفه الفتى / وحنينه أبداً لأول منزل) شعرت حينها أنني لم أعرف عبدالله أبداً. عبدالله لحمه وعظامه ودمه من مجز الصغرى، وكائناته كلها لا يحبها إلا لأنها تأخذه الى هناك، عبدالله ثائر لأنه بعيدٌ عن مجز الصغرى، بالمعنى المجازي لكلمة بعيد، عبدالله لم يكتب حتى الآن تصريف جديد لكلمة ” مشتاق” كما يفعل عادة عندما يلعب بالكلمات ويستخدم معجمه الخاص. وليس لأنني أقدسه، فكل ما أقوله موجود في كتاباته، يعيش في جسد عبد الله كل من مروا به، حتى من طعنوه، وأشعر أنني أعرف حبيباته كلهنّ بداية بمريم المعيني ونهايةً بتلك التي تركها في مواقف السيارات بإحدى المجمعات التي لابد وأنها قريبة مني الآن وأنا في قلب مسقط. وعندما قيل لي أن عبد الله يزدري الأديان، والله لم يلمع في ذهني إلا اقتباسه لآية من سورة العصر في كتابه “التشظيات” ولم أكن أتذكر حتى السياق التي وضَع فيه الآية، لكنني متأكدة أنه فعل ذلك في المكان المناسب تماماً كما يفعل دائما عندما يكتب. لذلك عندما عدت الى شقتي في ذلك اليوم فتحت الكتاب وبحثت في صفحاته الأخيرة، ذلك أنني أمتلك ذاكرة صورية جيدة بما يتعلق بالكتب التي أقرأ، وكان أن وجدت التالي:

“هو ذكرها بأنه في ليالي الغزل القديم كان يقرأ لها كمراهق ناضج بعض الشيء “أنشودة المطر” لبدر شاكر السياب كاملة عبر الهاتف، خفراً وحناناً، وحنيناً. قال لها أنه يعشق المطر أيضاً، وان السماء لن تمطر بعد رحيلها إلا إذا أجلت سفرها ليوم واحد أو اثنين في الأقل.

هي قالت له انها تتفق مع الرأي المتطرف ان المطر لن يهطل على كامل الأرض إلا من أجداث الجوعى والظامئين عبر الكوكب الذي ظلم فيه الإنسان أخاه الإنسان أيما ظلم، وان الانسان مهزوم بالضرورة في معركته مع الزمن مرددة “والعصر، إن الإنسن لفي خسر” وانها ببساطة تحب الأشياء، وعدم التكلف والمبالغة.”

عبدالله لا يفهم غير الحب في أي شيء، غير التضامن مع الإنسان وحده، لذلك إن عجز عن فهم أي شيء تؤمنون به، فأنا أشك بهذا الإيمان وبما يدور حوله. في السجن أرسل لك تحياتي بمقولة للشاعر وديع سعادة إلى سركون بولص الذي نحبه لأنك تفعل كثيراً: ” إلى سركون بولص: فيما الآخرون لا يزالون يبحثون عن مدنهم، وصلتَ أنت إلى مدينتك “أين” واسترحت.” وأنت يا عبدالله تعرف الإتجاهات جيداً، تعرف ما يعنيه الشمال والمستقبل، الشمال الحزين، لا لأنك تحاجج بمعونة ادوارد سعيد حول ما يسمونه الشرق والغرب وحقيقة هذه التسميات، بل لأنك تحب مجز الصغرى كثيراً وتحب عمان كثيراً جداً.

أمل

5/4/2018