جالساً في مكانه يسترقُ خلسةً النظرة تلو الأخرى، يبدو أن صديقه يحدثه باهتمام، لكنه مع ذلك يجد بين الكلمات فرصة للنظر إليّ، عندما بدأت أحسُ بأنه لم يكن ينظر إليّ ببساطة، بل كان يريد شيئاً، صارت نظراتنا تتلاقى بعض الأحيان، هو يصطنع الاهتمام بي، وأنا أحاول اقتناص لحظات فضوله، كان شاباً أبيض البشرة، بلحية خفيفة تشعر أنه لم يبذل جهداً في تصفيفها، تماماً مثلما تقتضي الموضة، لكنني لا أشك بأنه يستخدم لها منتجات باهظة الثمن لتبدو مهملة بصورة طبيعية!

أقل من عشر خطوات تفصل بيننا، ومهما اتسعت خطوتي لن أصل له قبل أن لا يجفل صاحبه من الحديث، ذلك الذي يبدو متحمساً ليتحدث عن ذلك الشيء المهم. لكن لابد لهذه القصة التي يقولها الآن، أن تنتهي، لابد أن يكون لكل شيء نهايةٌ ما، ربما سيمسك هاتفه ليتأكد من عدد الرسائل التي وصلت إليه بينما كان يتحدث بهذه الطريقة، لابد من طريقة ما، ليفلح الشاب الملتحي في النظر إليّ لمدة أطول.

وعلى الرغم من أن فتاتين تجلسان مقابل طاولتي، وهما جميلتان جداً، أجمل مني بلا شك، إلا أنه لا ينظر إليهما، هل لأنني وحيدة؟ أم لأنه ينجذب لنوعي من النساء، الشاردات، اللاتي يمسكن كتاباً، ثم يضعنه ويتأملن في الفراغ، أو ربما لأن بشرتي قمحية، وعيناي صغيرتان وتشبهان الفستق، وشعري الذي يظهر من تحت حجابي يبدو جذاباً فلقد صبغته بلون عسلي، هل ينبغي أن أخاف منه؟ تظاهرت بأنني غير مهتمة به أبداً، وبدأت أكتب في دفتر صغير أحمله في حقيبة يدي، ملاحظات غير ذات شأن، إذ أنني لم أستطع التفكير في شيء سواه، وكنتُ أتمنى لو أستطيع اطلاعه على قدرتي على التعبير، والكلمات الكبيرة التي أستخدمها لأصف أشياء تافهة، تغدو بعد وصفي متوهجة.

وعندما رفعت عيني بعدها مباشرة، التقت نظرتنا من جديد، إن جسده الضئيل أوحى لي ما كان سيحدث لو أنه هاتفني صباح ذات يوم، الهيئة التي سيستوي بها هذا الجسد على السرير، والابتسامات المندفعة التي لن يفتعلها، ربما بسبب شعوره بأن هذه الفتاة صارت ملكه، لقد حظي بها وهو متأكد من ذلك، ومثلما يكون الحب شرساً في البداية، تكون الابتسامة المتولدة من هذه الثقة أكثر وحشيةً. رأيته يحك ذقنه مرة واحدة فقط، وإيقاع حركة يده وهي تصفف الشعر إلى أسفل الذقن.

أكتب في دفتري الصغيرة جملة عرضية “أرأيتَ شيئاً بمثل صفاء هذه الصحراء؟” وأحاول أن أبعده عن تفكيري، أتناول من جديد هذه الرواية التي لم تعجبني كثيراً في واقع الأمر لكن شخصية هامشية فيها تقرأ “بيدرو بارامو” في السجن، أحب ذلك. يقوم صاحبه ليرد على اتصال، ينظر إلىّ هذه المرة نظرة واحدة مرسلة، ولأننا لم نتفق بعد على أن هذا ممكن ومسموح به، أتظاهر في اللحظة ذاتها بأنني منشغلةٌ بشيء آخر، ليس هاتفي طبعاً، لأنني لا أريد أن يظن بأن رجلاً آخر يطمئن علي في هذه الأثناء، أو أن لدي من أرغب في الحديث معه.

لو كان رجلاً يلعب رياضة في المساء؟ سأستغل الفرصة لكي أنهي فصلاً من رواية طويلة، إذ أنني معه لن أقرأ سوى الروايات الضخمة، سأكون صبورة، وليس هنالك أي شيء يستدعي أن أسابق لأجله، سأقرأ آنا كارنينا من جديد، أو الملهاة الإنسانية لبلزاك، وسأجد وقتاً طويلاً للتمهل في قراءة الأوديسة والإلياذة، سأعد شاياً وقت العصر، لا شاياً بنكهات، بل شاي كلاسيكي، متفقٌ عليه. وإذا ما عاد في المساء لا أعرف بعد مالذي سنفعله معاً، لكنني واقعية طبعاً، وأعرف أننا سنتشاجر في بعض الأحيان، سيغضب عليّ، وسأغضب عليه، ربما نصفق الباب بقوة من حين لآخر، لكن الأمور ستكون على خير ما يرام في النهاية، أما لحيته هذه فيجب أن أقول له بأن اهتمامه المبالغ بها يثير غثياني.

عاد صديقه، كان يرتدي ثوباً ملوناً، أما الشاب الملتحي فكان يرتدي ثوباً أبيض، يبدو فيها بياض وجهه ملتحفاً غطاءً شفافاً لكيلا يظهر قوياً، أعرف أنه لم يفكر في هذا، فمن طريقته في تحريك يده، وهي مرات نادرة فعل فيها ذلك، أعرف أنه يسأل نفسه طوال الوقت بينما يكون خارج البيت “كيف أبدو؟ أبدو وسيماً” يطلبان النادل، لم يكن على الطاولة شيءٌ سوى الماء، كانا يريدان الحساب، أيعقل أن يفعلها بهذه السرعة، ربما سيغادر صاحبه بعد مكالمة عاجلة.

كنتُ أجلس في أقصى زاوية عند الباب، قام من مكانه، نظر إليّ نظرة فاحصة هذه المرة، وغير مكترثة لكوني أنظرُ إليه في اللحظة نفسها، نظرة تقصد النظر، غير أنه تجاوزني، وتابع طريقه، غير مكترث أبداً، وفجأة بدا أن شاباً آخر يحدق في هيئتي، شاب آخر لم يكن هنا من قبل.