portrait-of-carson-mccullers-john-rawlings
كارسن ماكالرز

 

الجوال – كارسن ماكالرز

ترجمة: زهرة ناصر

تدقيق: أمل السعيدي

 

         كان حد الغبش بين الحلم واليقظة روميّ هذا الصباح، إذ رأى النوافير الناثرة، والشوارع الضيقة المقنطرة، والمدينة الذهبية الغنية بالأزهار والأحجار التي صقلها الزمن. حين يكون بالكاد قد استيقظ يشاهد نفسه يتجول مجدداً في باريس، ويزور أنقاض حروب ألمانيا. أحياناً ينزل في فندق ثلجي ويزور أماكن تزلج سويسرية، وأحياناً أخرى، يجوب في أعقاب الفجر حقول جورجيا المحروثة تواً استعداداً لبذرها. كانت روما هذا الصباح في منطقة الأحلام البعيدة عن الواقع.

         استيقظ جون فيريس في إحدى غُرف فنادق نيويورك، يعتريه أحساس شيء مزعجٍ بانتظاره. لم يكن يعرف ما هو، وبقي هذا الإحساس المتداخل مع رغبات الصباح عالقاً فيه حتى بعد أن كان قد ارتدى ملابسه ونزل إلى الطابق السفلي. كان يوماً خريفياً صافياً، يتقطع فيه ضوء الشمس الباهت بين ناطحات السحاب المبرقشة. ذهب فيريس إلى المقهى المختص المجاور، وجلس في آخر مقصورة بجوار نافذة زجاجية تطلّ على الرصيف. طلب افطاراً أمريكياً من السجق والبيض المخفوق.

         كان فيريس قد جاء من باريس الاسبوع الماضي ليحضر جنازة والده التي أُقيمت في بلدة مسقط رأسه، في جورجيا. جعلته صدمة الموت يدرك حقيقية أن الصبا قد انقضى. كان شعره في انحسار، وأوردة صدغيه الأملطين نابضة وناتئة. كان جسده نحيلاً باستثناء انتفاخة بطنه الظاهرة. أحب فيريس والده، وكانا يوماً ما مقربين بشكلٍ استثنائيّ- لكن السنين حلّت ذلك الحب البنوي بطريقةٍ ما. تركه موت أبيه المنتظر منذ مدة طويلة، في فزعٍ طارئ. بقيّ لأطول فترة ممكنة ليكون بقرب والدته وإخوته في البيت. وستغادر طائرته المتجهة إلى باريس في الصباح التالي.

         سحب فيريس دفتر عناوينه ليتحقق من رقمٍ ما. قلّب الصفحات باهتمامٍ متزايد. رأى أسماء وعناوين من نيويورك، وأخرى من عواصم أوروبية، وقليلاً من الأرقام غير الواضحة من ولايته في الجنوب. أسماء مطبوعة متلاشية خُربشت فوق أخرى مهملة. بيتي ويلز: حبٌ عابر، متزوجة الآن. تشارلي ويليامز: جريح في غابة هورتن، لم يسمع عنه بعدها. ويليامز العجوز الجليل – عاش أم مات؟ دون وولكر: عضو الـ B.T.O على شاشة التلفاز، يصبح أغنى. هنري غرين: تدهورت حالته بعد الحرب، يقولون إنه في مصحة الآن. كوزي هول: سمع بأنها قد توفيت. كوزي الطائشة، كان من الغريب الاعتقاد بأن تلك الفتاة السخيفة، يمكنها أن تموت أيضاً. كابد فيريس إحساساً بالخطر، والزوال، والخوف تقريبا، عندما أغلق دفتر عناوينه.

         ارتعش جسده فجأة، فبينما يحدق من النافذة رآها هناك، تسيرُ على مهل عند الرصيف المحاذي للمقهى. إليزابيث، زوجته السابقة. لم يستطع فهم اختلاجة قلبه الجامحة، ولا إحساس الاندفاع والعذوبة الذي خلفه ذهابها فيه.

         دفع فيريس حسابه على عجل ثم هرع خارجاً إلى الرصيف. وقفت إليزابيث عند الزاوية تنتظر اشارات الجادة الخامسة. سارع نحوها راغباً في محادثتها، لكنه لم يصل إليها لأن الإشارات تغيرت وكانت قد قطعت الشارع. تبعها فيريس. كان بإمكانه تجاوزها بسهولة على الجانب الآخر، لكنه وجد نفسه متأخراً عنها بصورة لم يتوقعها. كان شعرها البني الجميل مجدولاً ببساطة، وبينما كان يراقبها، تذكر والده حين علق قائلاً ذات مرة،” لدى إليزابيث قوامٌ جميل“. انعطفت عند الزاوية التالية فلحقها على الرغم من أن رغبته في الوصول إليها كانت قد اختفت. تساءل فيريس عن الاضطراب الجسدي الذي أثير فيه ساعة رؤيته لإليزابيث، عن الرطوبة في يديه، عن ضربات قلبه القاسية.

         كانت قد مرت ثماني سنوات على آخر مرة رأى فيها فيريس زوجته السابقة. كان يعلم أنها قد تزوجت مرة أخرى منذ مدة طويلة. وكان لها أطفال. قلما فكر بها خلال السنوات الأخيرة، ففي البداية، وبعد طلاقهما، كادت الخسارة أن تقضي عليه. ثم خدره الزمن، فأحب مرةً أخرى، ثم أخرى. والآن” جينين“. مؤكد أن حبه لزوجته السابقة كان قد انتهى منذ زمنٍ طويل، لماذا إذن هذا الجسد المضطرب، وهذا الفكْر التائه؟ جلّ ما عرفه، هو أن قلبه الملّبد كان غير متناغم على نحوٍ غريب مع يومٍ خريفيّ صافٍ ومشمس كهذا اليوم. انعطف فيريس فجأة، ثم سار بخطواتٍ واسعة، يهرول عائداً إلى الفندق.

         سكب فيريس لنفسه شراباً، على الرغم من أن الساعة لم تكن قد بلغت الحادية عشرة بعد. تمدد على مقعدٍ بمسندين كرجلٍ منهك وأخذ يمتص كأس البربون الممزوج بالماء. كان أمامه يوم كامل قبل أن يقفل عائداً إلى باريس في صباح الغد. راجع مواعيده: أخذ الأمتعة إلى الخطوط الجوية الفرنسية، تناول الغداء مع مديره، شراء حذاء ومعطف، وماذا أيضاً – ألم يكن هنالك شيء آخر؟ أنهى شرابه ثم فتح دليل الهاتف.

         كان قرار مهاتفة زوجته السابقة اندفاعياً. وجد الرقم أسفل اسم زوجها” بايلي“. اتصل قبل أن يُتاح له الوقت الكافي ليخوض جدالاً مع ذاته. كان قد تبادل هو وإليزابيث بطاقات تهنئة في أعياد الميلاد، وقد أرسل لها طقم منحوتات هدية لزواجها. إذن لا يوجد أي سبب يمنعه من مهاتفتها، إلا أن ظنونه أرهقته بينما كان ينتظر، مصغياً إلى الرنين في الطرف الآخر.

         أجابت إليزابيث، شكلّ صوتها المألوف صدمةً أخرى. اضطر إلى تكرار اسمه مرتين قبل أن تتعرف عليه، فبدت سعيدة بذلك. قال إنه يقضي هذا اليوم فقط في المدينة. أخبرته بأنهم سيذهبون إلى المسرح هذا المساء، لكنها سألته إن كان يناسبه تناول عشاء مبكر معهم في البيت. فأجاب فيريس بأن ذلك سيكون من دواعي سروره.

         بينما كان ينهي مواعيده موعداً بعد آخر، ما انفك يضايقه في لحظاتٍ عرضية احساس نسيان شيء مهم. استحم فيريس وغيّر ملابسه في وقتٍ متأخرٍ بعد الظهيرة. فكر كثيراً في جينين، سيكون برفقتها في الليلة التالية. “جينين” سيقول” حدث أن صادفت زوجتي السابقة عندما كنت في نيويورك. تناولت العشاء معها، هي وزوجها بالطبع، كان من الغريب رؤيتها بعد كل تلك السنوات“

         تقطن إليزابيث في إيست فيفتيز. كان فيريس يستقل سيارة الأجرة متجهاً إلى قلب المدينة عندما لمح الغروب المتريث عند تقاطع الطرق، لكن ظلام الخريف كان قد حلّ في الوقت الذي بلغ فيه وجهته. الشقة كانت في الطابق السابع في مبنى له سرداق وبواب.

         “تفضل بالدخول، سيد فيريس “.

         كان فيريس قد جمع رباطة جأشه لإليزابيث، أو حتى لزوجها الذي لم يتخيله بعد، لكنه فوجئ بطفلٍ أنمش ذي شعرٍ أحمر عند الباب. على الرغم من أنه عرف بوجود الأطفال، إلا أنه فشل بطريقةٍ ما في استيعاب وجودهم. جعلته المفاجأة يتراجع للخلف على نحوٍ أخرق.

         “هذه شقتنا “قال الطفل بأدب” ألست أنت السيد فيريس؟ أنا بيلي. ادخل“. في غرفة المعيشة، فيما وراء الردهة، قدّم له الزوج صدمةً أخرى، فلم يتمكن من الإقرار بوجوده هو الآخر. كان بيلي رجلاً متثاقلاً ذا شعر أحمر، يتصرف بتأنٍ بالغ. قام ورحب بفيريس ماداً يديه.

         “أنا بيل بايلي. سعيد بلقائك. ستكون إليزابيث هنا في غضون دقائق، إنها تنهي زينتها“. هزته الكلمات الأخيرة، فداهمه سيلٌ من الأحاسيس والذكريات، من سنواتهما معاً. الجميلة إليزابيث، عارية ومتوردة قبل حمامها. شبه عارية مقابل مرآة منْضدة الزينة، تمشط شعرها الكستنائي الجميل. عذوبتها، حميميتها العفوية، عودها الرقيق الناعم الأخاذ حتماً. انقبض فيريس من هذه الذكريات التي فرضت نفسها عليه، فأجبر نفسه على ملاقاة نظرات بيل بايلي.

         “بيلي، هل يمكنك إحضار صينية المشروبات تلك من على طاولة المطبخ؟ “

أطاعه الطفل على الفور، وعندما غادر أشار فيريس متحدثاً، “لديكم فتى جميل هنا”.

         “نظن ذلك. “

         خيّم صمتٌ تام حتى عاد الصبي بصينية الكؤوس وزجاجة كوكتيل المارتيني. تدفقت الأحاديث مع أول المشروبات: تحدثوا عن روسيا، والاستمطار في نيويورك، وأوضاع الشقق في مانهاتن وباريس.

         “يحلّق السيد فيريس غداً قاطعاً المحيط بأكمله” قال بايلي للصبي الصغير الجاثم على ذراع كرسيه هادئاً ومؤدباً” أراهن على أنك تود لو تسافر معه متخفياً في حقيبة سفره“

         أزاح بيلي شعر ناصيته المتدلي إلى الخلف. “أريد أن أسافر في الطائرة، وأن أصبح صحفياً مثل السيد فيريس. “ثم أضاف بتأكيدٍ مفاجئ” هذا ما أود القيام به عندما أصبح كبيرًا“.

         قال بايلي: “خلتك تريد أن تصبح طبيباً“.

         “صحيح!” قال بيلي. “أود أن أكون الاثنين معاً. وأريد أن أصبح عالم قنابل ذرية أيضا“

         جاءت إليزابيث حاملة طفلة بين ذراعيها. “أوه ، جون!” قالت ذلك وحطت الطفلة في حضن الأب. “إنه لأمر عظيم رؤيتك. ممتنة جدا لأنك استطعت المجيء“.

         جلست الفتاة الصغيرة بوداعة على ركبتي بايلي. كانت مرتدية ثوب فروك وردياً باهتاً، منسوجاً من قماش “كريپ دي شين” مشدوداً بطيات ومطرزاً حول الصدر باللون الزهري، مع شريط حريري من نفس اللون يشد خصلاتها الشاحبة والناعمة إلى الخلف. كانت بشرتها بسُمرة الصيف وعيناها البنيتان موشاة بالبقع الذهبية والمرح. لمست نظارات والدها السميكة وداعبتها بأصابعها، فخلعها وتركها تنظر من خلالها لبرهة. “كيف حال عجوزي كاندي“.

         كانت إليزابيث جميلة جداً، ربما أكثر جمالاً مما أدركه قَط. كان شعرها النظيف المسترسل لامعاً، ووجهها المشرق الرائق أنعم. كان سحرها مادونياً(١)، يتناسب مع جو العائلة.

         “بالكاد تغيرتْ” قالت إليزابيث” لكنها كانت فترة طويلة“

         “ثماني سنوات” ولامس بيديه شعره الخفيف عن وعي، بينما استمروا في تبادل ملاطفاتٍ أخرى.

         شعر فيريس فجأة بأنه متفرج؛ متطفل وسط عائلة آل بايلي هذه. لماذا عساه أتى؟ كان يعاني. بدت حياته وحيدة للغاية، كعمودٍ هش لا يسند شيئاً في وسط حطام السنين. شعر بأنه لا يقوى على البقاء لوقتٍ أطول في هذه الغرفة العائلية.

         ألقى نظرة خاطفة على ساعته. “أنتم ذاهبون إلى المسرح؟ “.

         “هذا مشين” قالت” لكننا مرتبطون بهذا الموعد منذ أكثر من شهر. لكنك يا جون ستعود بلا شك يوماً ما، ربما قريباً، إلى وطنك. فأنت لا تريد أن تبقى مغترباً، أليس كذلك؟ “

         “مغترب! “ردد فيريس” لا تروقني هذه الكلمة كثيراً“

         “هل من تعبيرٍ أفضل؟ “سألت.

         فكر للحظة،” جوال، تفي بالغرض“.

         تفقد فيريس ساعته مرةً أخرى، ومرةً أخرى اعتذرت إليزابيث. “لو أننا فقط عرفنا في وقتٍ أبكر..“

         “أقضي هذا اليوم في المدينة فقط. فقد عدت إلى الوطن بشكل غير متوقع. تعرفين، توفي بابا الأسبوع الماضي. “

         “بابا فيريس مات؟”

         “نعم، في جونز هوبكنز. كان مريضاً هناك قرابة عام. أقيمت الجنازة في البلدة في جورجيا“

         “أوه، أنا آسفة حقاً، جون. بابا فيريس كان دائمًا أحد أشخاصي المفضلين“.

         تحرك الصبي الصغير من وراء الكرسي حتى يتمكن من النظر إلى وجه أمه. سأل “من مات؟ “

         كان فيريس غارقاً في أفكاره. فكر في والده. رأى الجسد المسجى على بطانة التابوت الحريرية مرة أخرى. كان لحم الجثة متخضباً بغرابة، واليدان المألوفتان الضخمتان مرتخيتين ومضمومتين فوق حزمة من الورود الجنائزية. انفضّت الذكريات وأفاق فيريس على صوت إليزابيث الهادئ.

         “والد السيد فيريس، يا بيلي. شخصٌ عظيم بحق. شخص لم تعرفه. “

          “لكن لماذا دعوته بابا فيريس؟ “

         تبادل بايلي وإليزابيث نظرة من وقع في ورطة. كان بايلي هو من أجاب على سؤال الطفل. “منذ زمن طويل” قال” أمك والسيد فيريس كانا زوجين. قبل أن تولد أنت – منذ زمن طويل“.

         “السيد فيريس؟”

         حدق الصبي الصغير في فيريس مندهشاً وغير مصدق. وبادله فيريس التحديق بعيونٍ غير مصدقة كذلك. هل صحيحٌ حقاً أنه كان يسمي هذه الغريبة، إليزابيث، في وقتٍ ما مضى في ليالِ الحب التي عاشاها معاً ”باتردوك الصغيرة”، وشاركها ربما آلاف الأيام والليالي – وأخيراً – قاسيا بؤس العزلة المفاجئة وتمزق نسيج زواجهم الذي كان عن حب خيطاً فخيطاً (بالغيرة، والكحول، والنزاعات المالية).

         قال بايلي للأطفال: “حان وقت عشاء أحدهم. هيا الآن.”

         “لكن بابا! ماما والسيد فيريس! – أنا —”

         ذكرت عيون بيلي المتسمرة – التي يكسوها خليط من الحيرة وبريق العداء – فيريس بنظرات طفلٍ آخر، نظرات ابن جينين الصغير. صبيٌّ في السابعة، وجهه الصغير مظلم وركبتاه متراصتين. كان فيريس يتجنبه، وغالباً ما ينسى وجوده.

         “تقدم، سر!” أدار بايلي ابنه بيلي نحو الباب بلطف. “قل ليلة سعيدة الآن يا بني“.

         “ليلة سعيدة، سيد فيريس”. وأضاف ممتعضاً، “اعتقدت أنني سأبقى لتناول الكعك“.

         “يمكنك أن تأتي لاحقاً لتناول الكعك.” قالت إليزابيث “اسرع الآن مع بابا لتناول عشاءك“

         كان فيريس وإليزابيث لوحدهما. انحسر ثقل الموقف في تلك اللحظات الأولى من الصمت. طلب فيريس الإذن ليصب لنفسه مشروباً آخر، فوضعت إليزابيث خليط الكوكتيل على الطاولة بجانبه. نظر إلى البيانو الضخم ولاحظ نوتات الموسيقى على الرف.

         “ما زلتِ تعزفين بروعة كما اعتدتِ؟ “

         “ما زلت استمتع بالعزف“

         “أرجوكِ اعزفِ، إليزابيث. “

         قامت اليزابيث على الفور. كان استعدادها للعزف عندما يطلب منها دائما أحد خصالها الدمثة؛ لم تتردد قط، ولم تعتذر. الآن وهي تقترب من البيانو، كان لديها استعداد آخر؛ الارتياح من ثقل الموقف.

         بدأت بـ Preludes and Fugues لباخ. كانت المقدمة مزخرفة بمرح كمنشور زجاجي في غرفة يكسوها ضوء الصباح. صوت المقطوعة الأول كان بمثابة إعلان نقي ومنفرد، تكرر مرةً أخرى ممزوجاً بصوتٍ ثانِ، ثم مرة أخرى ضمن إطار معقد من موسيقى تعددية رائقة، كانت تتدفق أفقياً بجلالٍ متأنِ. حُبِكَ اللحن الأساسي بتناغم مع صوتين آخرين نُمقا ببراعةٍ لا حدّ لها – يهيمنان تارة ويخبوان تارةً أخرى، لهما مهابة شيء أحادي لا يخشى الخضوع للكل. نهاية المعزوفة، حُشدت كثافة المادة الموسيقية لترسخ هيمنة باعث الصوت الأول فيها، ومع آخر بيانٍ موتور أنهيت المقطوعة. أراح فيريس رأسه على مسند الكرسي وأغمض عينيه. أزاح الصمت الذي جاء بعدها، صوت عالٍ وواضح قادمٌ من الغرفة أسفل الردهة.

         “بابا، كيف يمكن لماما والسيد فيريس –” ثم أُغلق الباب.

         انطلق صوت البيانو مرة أخرى – ما هذه الموسيقى؟ غير اعتيادية، لكنها مألوفة، بقي هذا اللحن الصافي ساكنا قلبه لفترة طويلة. الآن شرع يناديه من مكانٍ آخر، وزمنٍ آخر؛ إنها الموسيقى التي اعتادت إليزابيث عزفها. استدعى الهواء الرقيق عالماً من الذكريات، وضاع فيريس في هياج الحنين القديم، والصراعات، والرغبات المتناقضة. الغريب أن الموسيقى التي حفزت فوضى المشاعر هذه كانت رائقة وحبيبة. ثم قُطع اللحن المعزوف بظهور الخادمة.

         “سيدة بايلي، العشاء على المائدة “.

         بقيت الموسيقى المنقوصة مغيمة على مزاج فيريس حتى بعد أن جلس على الطاولة بين مضيفه ومضيفته. وقد كان ثملاً بعض الشيء

         “L’improvisation de la vie humaine” قال” لا شيء يجعلك تدرك أن الوجود الإنساني كان حتماً شيئاً مرتجلاً، مثل أغنية لم تنتهِ، أو دليل عناوين قديم“

         “دليل عناوين؟” كرر بايلي. ثم توقف، غير مضطر بتهذيب.

         “ما زلت نفس الولد القديم، جوني” قالت إليزابيث مع لمحة من رقتها المعهودة.

         في ذلك المساء تناولوا عشاءاً جنوبياً، مكوناً من أطباقه المفضلة التي كان يحبها في الماضي؛ دجاج مقلي وبودنغ الذرة مع بطاطا حلوة محلاة بشيرة وافرة. كانت إليزابيث تعيد الحياة إلى المحادثة عندما يخيم الصمت خلال تناولهم العشاء. ثم جاء الوقت الذي اضطر فيريس فيه للحديث عن جينين.

         “عرفت جنين لأول مرة في إيطاليا الخريف الماضي، في مثل هذا الوقت من السنة. إنها مغنية ولديها تعهدات في روما. أتوقع أن نتزوج قريباً“.

         بدت كلماته صادقة بلا أدنى شك، حتى أن فيريس نفسه صدقها. لم يكن قد تحدث هو وجينين عن الزواج في تلك السنة، في الحقيقة لا تزال جينين متزوجة رسمياً من صيرفي بلاروسي يقطن باريس، على الرغم من أنها كانت قد انفصلت عنه منذ ما يقارب خمس سنوات. كان الأوان قد فات لتصحيح الكذبة، حيث سمع إليزابيث تقول:” هذا الخبر يجعلني سعيدة حقاً، تهانينا جوني“

         حاول أن يقدم تعويضاً عن كذبته.” الخريف جميلً جداً في روما. الجو معتدل والأشجار مزهزة” وأضاف” لدى جينين طفلٌ صغير في السادسة من عمره، صبي فضولي صغير يتحدث ثلاث لغات. نذهب أنا وهو إلى حدائق التويلري أحياناً“.

         كذبةٌ أخرى. كان قد أخذ الصبي مرة واحدة فقط إلى هذه الحدائق. كان الطفل الأجنبي الشاحب يرتدي سروالاً قصيراً يكشف عن سيقانه النحيلة، ركب الحصان ووضع قاربه الورقي ليبحر في مياه البركة الإسمنتية، ثم أراد أن يحضر عرض الدمى المتحركة لكن فيريس كان على موعد في فندق”سكرايب“ فلم يسعفهم الوقت، فوعده بالذهاب إلى الجينيول(٢) في ظهيرة أخرى. مرة واحدة فقط ذهب مع ڤالنتين إلى التويلري، لا غير.

         حدثت جلبة. أحضرت الخادمة كعكة بيضاء مثلجة عليها شموع وردية، ودخل الأطفال بملابسهم الليلية. لم يفهم فيريس شيئاً.

         “عيد ميلاد سعيد جون” قالت إليزابيث “اطفئ الشموع “.

         تذكر فيريس تاريخ ميلاده. انطفأت الشموع بتأنِ وعلقت في الجو رائحة شمعٍ محروق.

         كانت العروق على صدغي فيريس غامقة وتنبض بوضوح، لقد بلغ الثامنة والثلاثين.

         “حان وقت ذهابكم للمسرح “.

         شكر فيريس إليزابيث على عشاء عيد الميلاد، وودعها بشكلٍ ملائم. ثم رافقه جميع أفراد الأسرة إلى الباب.

         ظهر قمر شاحب أعلى ناطحات السحاب المظلمة التي تبدو مثل شيء مثلّم. كانت الشوارع عاصفة وباردة، فأسرع فيريس إلى الجادة الثالثة وأشار لسيارة أجرة. حدق في المدينة التي يغشاها الليل باهتمام وتأن، كانت تحديقة مغادرة، أو ربما وداع. كان وحيداً. فاعتراه توق إلى موعد رحيله ولرحلته المقبلة.

         نظر في اليوم التالي من الجو إلى المدينة في الأسفل، كانت ترفل في ضوء الشمس، تشبه لعبة دقيقة التفاصيل. اختفت أمريكا عن الأنظار ولم يبقَ سوى المحيط الأطلسي والشاطئ الأوروبي البعيد. كان المحيط ساكناً تحت الغيوم بلونه الحليبي الشاحب. غفا فيريس أغلب اليوم، ولكنه في منطقة مظلمة من عقله، كان يفكر في إليزابيث وزيارة الأمس، فكر فيها وهي بين عائلتها بلوعة، وحسد طفيف، وندم لم يستطع فهمه. أخذ يبحث في ذاكرته عن اللحن، وعن الجو غير المكتمل الذي هز كيانه. لكن لم يبقَ منه شيء سوى الإيقاع ومجرد نغمات غير مترابطة، أما اللحن نفسه فقد فلت من قبضته، ووجد بدلاً منه الصوت الأول للمقطوعة التي عزفتها إليزابيث محاكىً على نحو أخرق بالمفاتيح الصغيرة(٣). لم يعد قلق الوحدة والزوال يكدرانه وهو بين السماء والأرض، حتى أنه كان يفكر في موت والده برباطة جأش. وصلت الطائرة إلى ساحل فرنسا في ساعة العشاء.

          في منتصف الليل، قطع فيريس باريس مستقلاً سيارة أجرة. كانت ليلة مظلمة يلف الضباب فيها أضواء ساحة الكونكورد، وأنوار حانات منتصف الليل تلمع على أرصفة الطرقات الرطبة. كان تأثير تغير القارات مفاجئاً جداً كما هو الحال دوماً بعد أي رحلة يقطع فيها المحيط. نيويورك في الصباح، وباريس في منتصف الليل. فكر فيريس في فوضى حياته بشكلٍ خاطف: تعاقب المدن، علاقات الحب العابرة، والزمن؛ سَيْل السنوات المشؤوم، الزمن دائماً.

         “بسرعة، بسرعة” نادى بذعر” هيا، عَجّل “.(٤)

         فتح ڤالنتين له الباب. كان الصبي الصغير يرتدي بيجاما وروب أحمر صغير عليه. عيناه الرماديتان كانتا مظلمتان، تبعتا فيريس عندما مرّ به داخلاً الشقة، ثم رمشتا للحظة.

         “أنا أنتظر ماما“(٥)

         كانت جينين تغني في مكان ليلي لعزف موسيقى الـ Dub (٦)، ولن تعود إلى البيت قبل ساعةٍ أخرى. عاد ڤالنتين إلى الرسم، مقرفصاً، وفي يديه أقلامه الملونة، فوق ورقة موضوعة على الأرضية. نظر فيريس إلى الرسم في الأسفل – كان عبارة عن عازف بانجو(٧) مع نوتات وخطوط متموجة داخل فقاعة فكاهية.

         “سنذهب مرة أخرى إلى التويلري“

         نظر الطفل إلى الأعلى، فقربه فيريس من ركبتيه. باغته اللحن، والموسيقى المنقوصة التي عزفتها إليزابيث، فتخلص من ثقل الذكريات التي لا يرغب بها الآن وحاول التركيز على الامتنان والبهجة التي يحاول اصطناعها.

         “مسيو جان” قال الطفل “هل رأيته؟ “

         كان فيريس مرتبكاً، اعتقد أن الصبي يسأله عن طفلٍ آخر- فلم يخطر بباله إلا فتى العائلة الأنمش والمحبوب “رأيتُ من، ڤالنتين؟“

         “أبيك الميت في جورجيا” أضاف الطفل “هل كان بخير؟ “

         تحدث فيريس بإلحاح وكأنه يسابق الزمن: “سنذهب كثيراً إلى التويلري. سوف نركب الأحصنة، ونذهب إلى الجينيول. سنشاهد عرض الدمى ولن نكون على عجلة بعد اليوم”.

         “مسيو جان” قال ڤالنتين ”الجينيول مغلق الآن“

         باغته مرةً أخرى رعبُ تقبل السنوات الضائعة والموت. كان ڤالنتين المطواع والمطمئن لا يزال مضطجعاً بين ذراعيه. لامست وجنته وجنة الصبي الناعمة وأحس برمشة الأهداب الرقيقة. وبيأسٍ كان يعتصره من الداخل، ضغط على الطفل مقرباً إياه – وكأن هذه العاطفة الزائلة نحوه يمكنها أن تسيطر على إيقاع الزمن.

—————————————————————————————————————

 ١. مادونا، Madonna: صيغة تستخدم لوصف امرأة فاضلة، جميلة ومثالية. جاء أصل الكلمة من اللغة الإيطالية، وتتكون من مقطعينما my” ودونا Lady”.       

٢. مسرح دمى شهير.

٣. المفاتيح الثانوية Minor Keys: مفاتيح تُكوّن السلم الموسيقي الصغير وتتسم المقاطع الموسيقية المعزوفة علىيه بالسوداوية والحزن، وفي المقابل تكون المقاطع المعزوفة على السلم الموسيقي الكبير أكثر إشراقاً ومرحاً. ٤، ٥. كتبت في النص الأصلي بالفرنسية.

٦. موسيقى الـ Dub: فن يقوم على إعادة صنع الأغنيات بآلات موسيقية مختلفة.

٧. البانجو Banjo: آلة موسيقية وترية.