كان يتمشى في مزرعة والده، يوزع نظره على الحقل المحروث تواً، ناعساً راح يفكر في أنه لم يزرها منذ زمن بعيد، أشجار السفرجل الثلاث، في الزاوية الشمالية الأقصى، تحاوطها أوراقها التي طوحتها ريح الأيام الماضية، كان يجلسُ هنا كثيراً، لعلمه أن الجميع يجدونه بعيداً عن المنزل، وعن المكان الذي ينوعون فيه بين مختلف الإنتاج الزراعي طوال العام، هنا كوكب آخر، فلا يمكن إدراك نوافير الري الطويلة من على هذه الزاوية، لا شيء سوى أن أشجاراً ضخمة من المانجو تحول بينه وبين الجميع، لكنه لم يعد يأتي إلى هنا كثيراً، يريد ذلك ويقرر فعلاً أن يعود لمرات ومرات كلما كان هنا، لكنه ما إن يبتعد قليلاً لا يعود يفكر في هذا المكان.
يعمل موظفاً في أكبر شركة إتصالات في البلاد، يعود في تمام الساعة السادسة إلى شقته الصغيرة، في عمارة مميزة، ذلك لأنها تحتوي سطحاً، وسلالم داخلية تؤدي إلى السطح، يركن سيارته في قبو ضيق ورطب، ويشعر بقطرات العرق تسيلُ على ظهره، في المسافة الفاصلة بين القبو والغرفة، تعود ألا يطفئ تكييف غرفته، تفادياً للحرارة الخانقة في هذا الفصل من العام، يخلع ملابسه، ولا يحتفظ إلا ببوكسر علامة كليفن كلاين، ويلقي بنفسه على الفراش، عندما تلامس أصابع قدمه، برودة لحاف السرير، يحسُ بالراحة أخيراً من عناء اليوم، لا ينام، لا يتقلب، يسجي جسده هناك، طامحاً في الذوبان في شبح التراخي الضخم الذي شعر دوماً بالانتماء الحقيقي له. لكنه تلقى الآن مكالمةً من أمه، مات أبوه، وسيدفنونه هذا المساء.
قام من على الفراش بتباطئ من لايزال على حالته الأولى، أطرافهُ متراميةٌ في حالة غائمة من الكسل الغني، هرع يفكر في الأشياء التي سيحتاج إليها الآن، بطاقته البنكية في محفظته، ثوبين بلون أبيض كما يفعل الرجال دوماً، ارتدى واحدة سريعاً، كان ينتظر شيئاً ما في هذه الأثناء، أن يتلقى مكالمةً تطلب منه أن يعود لفراشه، ألا يكون هذا صحيحاً، أن المتصلة ليست أمه، وأنها طلبت رقماً تظنه لابنها، تمنى لو أنه يستطيع أن يكون واهماً، والده لم يكن مصاباً بأي مرض، لم يكن متعباً في آخر مرة، جلس فيها معه، كان ذلك قبل أسبوعين، عندما عاد للقرية، مثلما يفعل مرتين كل شهر، منذ ست سنوات. سينزل لسيارته من طراز لكزس ٢٠٠٥، ويقضي ساعات ذاهلاً في الطريق السريع لمدة ثلاث ساعات، متخيلاً، جثة والده الضخمة، ورائحة الكافور، وما إذا كان عليه أن يشتري عشاءً لوالدته وأخوته، أليس هو أكبر الأبناء، أليس مسؤولاً عما إذا كانوا بخير، حتى وإن كان بعيداً، ألا يتعامل مع الموقف؟ لابد وأن أحداً لن يعد العشاء هذه الليلة.
فكرة العشاء لم تكن الخاطر الوحيد في سفره ذاك، صادف ليلة أمس قبل خلوده للنوم، أن قرأ في كتاب للألماني زيبالد عن سمك الرنجة، الذي يقضي وقتاً قبل أن يموت، قدره أحدهم بساعة وعشر دقائق، يتغير لون سمك الرنجة عندما يموت، ويلمع في الهواء، جسد سمك الرنجة المضيء، كان هدفاً لبحث مخترعين ظنا أن باستطاعتهما تحويل هذه الإضاءة لمصدر دائم وحيوي للطاقة، لكن التجربة فشلت على نحو ذريع حتى أن أحداً لا يكاد يذكرهما اليوم، يشعر أنه ينتمي لهذا المحو، لهذا الصفر الكبير في هذه النتيجة، ولا يعرف لماذا تذكر هذه القصة الآن، هل تضيء جثة والده؟ هل لأن سمك الرنجة يموت أيضاً؟
كل نخلة في هذا المكان تعرفه، عندما أحب فتاة واحدة لمدة لا تزيد عن سبعة أشهر حسبما يتذكر، تساءل فيما لو كان بعد عشرين سنة سينظر لها قائلاً، إن الحياة التي قطعاها معاً تستحق العناء، لكنه شك في ذلك، وربما لم يكن ذلك شكاً، كان شيئاً يشبه الحدس الموثوق غير القابل لأن يرد، لذلك انسحب من تلك العلاقة، ولم يعد من جديد للحديث مع أي فتاة بشكل خاص، عندما يشاهد هذا المكان، مساحاته الظليلة، ورائحة السدر في الصباح الباكر، والزهور الصغيرة للسفرجل، يحسُ بأنه سعيد ومرتاح، وبأن ما يزيد على عشرين سنة من وقوفه هنا لأول مرة يستحق كل شيء منه. هذا المكان المقطوع من الأبدية بالنسبة إليه، هو كل ما ينبغي أن يعيش لأجله، إنه غيابه على نحو لا يصدق.
أمام فكرة موت والده، ضحك في سره، لا يعرف ما الذي سيفعله بكل صكوك الأراضي التي اشتراها مؤخراً، هو لا يحتاج المال، لطالما أثارته فكرة الرغبة في أن يبتاع أحدهم كل هذه الأراضي وهو في الخمسينات من عمره، بينما تطلب أمه المال منه ومن إخوتها لكي تشتري مكنسةً جديدة للبيت، طقم صحون جديدا، أن تعشب حوش البيت، أن تغير طقم الكنبة، أن تشتري تلفزيون ٨٠ بوصة، كل يوم، كل مرتين في الشهر كان يرى أمه تتداعى طلباً لشيء يكاد كل ما فيها يقول إنها لن تعيش بدونه، حتى غسالة الأوتامتيك الأكبر حجماً من تلك التي يستخدمونها في البيت. أمه التي تستخدم سيارة لاندكروزر في طرازها الأحدث، وتأمينها الذي يزيد عن ألف ريال عماني، لكن أباه ليس هنا الآن، وفي مكان بعيد في نفسه، يعرف أنه اختبر هذا الشعور من قبل، ليس لأنه كره والده يوماً، بل لأنه ذلك الشخص الذي يعرف الأشياء البديهية، ويخافها بما يكفي، فإذا ما صارت واقعاً، بدا أنه استنفد ما يكفي من مشاعره لأجلها.
لا أحلم هنا بالعودة إلى غرفتي، صحيح أنني أمتلك هناك نوعاً جيداً من البراندي، الذي يستطيع أن يدفعني للتعاطف مع بيت شعر لريلكه، كما فعلتُ الأسبوع الماضي، عندما كنتُ غضاً مع فتاة عشرينية، شاركت المقطع عبر حسابها على تويتر، لم تكن قد أشارت لريلكه، ولم أكن لأحادثها لولا أنني بحثت عن صاحب المقطع عبر نسخه والبحث عنه في “جوجل”، لم أعرف سوى في الصباح التالي، أنني كنتُ أهذي لها بأن شيئاً في تلك الأبيات غمرني، وأريد أن يتكرر هذا الإحساس مجدداً، وأنني أعتمدُ عليها في ذلك. حينها بدا ذلك وحشياً بالنسبة لي، إذ لا أريد هذا كله، وقد ساءلتُ وعيي مراراً عما إذا كان هذا فعلاً ما أخبئه تحت جسدي الناحل، هنا لستُ سلبياً، لا أتلقى العالم، بينما ينهمر علي من كل اتجاه، أشعر في هذه الزاوية بأنني ذلك الذي يبتعد به في كل اتجاه، كل نأمة صغيرة، هي شظية في حلم كبير، الهواء في هذا المكان، يشبه الليالي الصيفية التي يفاجئك فيها الشاطئ، بحرارة معتدلة، فتقول لنفسك: لماذا لا آتي لهنا كثيراً؟ مات أبي، مثلما توقعتُ قبل عشرين عاماً وأكثر، وحدي أنا من لا أتوقع موتي، متناهٍ وأعجز عن تفسير ذلك، فليس الموت ما يقلقني فيّ، بل شيء آخر، ربما كل المشاعر البدائية التي ينبغي تقويضها، منعاً لهدر الوقت، ووقاية من اللامبالاة الفظة التي تنتج بعدها، تلك التي تشعر بها في غلافك الجسدي، لا أريد شيئاً من ذلك، يكفيني أن أبدي كل التعابير اللازمة بعفوية أكبر.
22 أفريل، 2019 at 1:11 ص
يا الله! لامست روحي.
إعجابإعجاب
10 جويلية، 2019 at 6:48 ص
اعجبني النص جدا
إعجابLiked by 1 person