كنتُ أبحث قبل قليل، عن سيرتي الذاتية في ملفات الحاسب الآلي، فوجدتُ هذه اليوميات التي كتبتها قبل ما يزيد عن عام، في زيارتي للكويت. عشتُ في الكويت أربع سنوات ونصف لإتمام دراستي الجامعية.
المطار / مسقط – الأربعاء- ٢٩/١١/٢٠١٧
في وسط هذا الحشد الدافئ من الناس لا أشاهد إلا نفسي، أشعر بكل خلية صغيرة، تنبض الآن في ترسانة هذا الجسد الذي يحمل وجهاً شاحباً، وملامح مسحوقة لطفل ضاع في مكان ما. ما الذي يمكن قوله عن هذا كله، لا أدري.
صدفة نظرت إلى فتاة درست معي في الجامعة، أتذكر أنها درست الاقتصاد، وكانت تقص شعرها كلما طال قليلاً، حتى أننا لم نرها بشعر طويل أبداً، ترتدي اليوم قميصاً مرقطاً، وتبدو هادئة على غير عادتها، خشيت أن تتعرف عليّ، لا أريد الخوض في حوارات مبتذلة عن أخبارنا في هذه البلاد، أفضل أن تبقى بالنسبة لي الفتاة ذات الشعر القصير فقط.
تنادي طفلها ريان، الذي يلعب بمحاذة الحاجز الزجاجي الذي يفصلنا عن ساحة الطائرات، إلا أنه يستمر في اللهو، ثم تتعب لاحقاً، لا تناديه، إلا عندما يسقط فجأة.
هذه الأشياء تجسر الهوة بيني ونفسي، إذ يصبح ما هو خارجي محل اهتمامي، كل المسافات تصبح صغيرة، أفتح كتابي وأعيد قراءة الجملة السابقة التي أغلقتُ معها الكتاب لأنني اكتفيتُ منه لحظتها: “كان بها شيء من التعصب الديني، شيء من الرغبة الجامحة نحو درجة عليا من الصفاء. وكانت ترغب بقوة في أن تقتل داخلها الشخصية القديمة المزيفة، الطامحة دوماً إلى العنف، أن تضحي بها، مقابل أن تولد من جديد: نظيفة، حرة، وبالأخص: حقيقية.”
سرعان ما بدأتُ أكتشف أن الفتاة ذات الشعر القصير، تنتظر صديقاتها -زميلاتي في السكن الطلابي- يسافرن معاً للكويت، هذه الإجازة فرصتنا جميعاً لنستعيد شيئاً من الماضي الذي لم نتركه يوماً، لا أعرف ما سر الكويت، لماذا تفعل هذا بنا، هل يشبه هذا نوعاً من التعلق الديني أيضاً؟
الخميس 30/11/2017:
فتحت ستارة النافذة، خرجت إلى الشرفة، شاطئ الخليج أزرق ومزدحم على غير العادة في وقت كهذا، لابد وأنها إجازة المولد النبوي، أخذت حماماً ساخناً، ارتديت ملابسي الشتوية وخرجت، مشيت كثيراً، ثم قررت الذهاب لمقهى قريب، يمكنني تناول قهوتي قبل أن أحس بأن اليوم قد بدأ فعلاً، في أثناء مسيري، لمحت استديو تصوير، ابتسمتُ، دخلت الى هناك وطلبت التقاط صورة لي مع كتابي، كنتُ أضحك في سري لأنها المرة الأولى التي سأقف فيها أمام مصور لا من أجل صور البطاقات الشخصية أو الأوراق الرسمية التي تطلبها المؤسسات في بلدي، حتى في ليلة زفافي لم نلتقط أنا وزوجي ولا صورة واحدة. كان دائما ما يقول لي أن التصوير عادة استهلاكية.
بهو الفندق والزهور البلاستيكية، بعثا في نفسي إحساساً حاداً بالمكان، منه انطلقتُ ثانية لسوق المباركية، لم أكن أرتاد هذا السوق إلا اذا طلب أحد مني مرافقته، واليوم الذي لن أنساه ما حييت، يوم كنا نمشي هناك، فسمعناً صراخاً وتنبيهاً بأن المتظاهرين من المعارضة دخلوا المباركية، بدأت الطائرات تحوم في الجو قريبة على نحو مروع من رؤوسنا، قذفت القنابل المسيلة للدموع، كنتُ أتحسس رائحتها، وأستعيد منشورات الفيس بوك التي قرأتها عن الثورة المصرية كثيراً، كان ثمة تنبيه عن هذا الغاز، لم أكن خائفة أبداً، فضولي كان يغمرني بشأن ما سيحدث ، هل سيجري أحد خلفنا؟ هل سنختبئ في مكان ما؟ رجال يركضون بأعلام برتقالية في السوق، صفارات إنذار، أعرف كيف يبدو هذا من الخارج، فأستاذ الفلسفة السياسية، يقول إنني من طلابه المفضلين، لكنني ولوهلة شعرتُ بأنني أعرف كيف يكون الشيء من الداخل، وأنني قريبة من شيء ما، وكان حلواً، ذلك الشعور بأنك تشاهد الناس يطلبون حريتهم، بأعلى أصواتهم. مرت بي لحظة مجنونة، فكرتُ فيها أنني أستطيع المشاركة، أن أقول شيئاً ما، لكنني لم أفعل أبداً.
ماذا أفعل هنا اليوم؟ أرغب في استعادة الأسباب التي توقفت من أجلها ذلك اليوم؟ سرتُ على طول الطريق الذي قطعته في الماضي، التقطت صوراً لعربة فاكهة وخضار، ألوان متوهجة، في مكان على الطراز القديم، هذا ما يميز كل عربة خضار في هذه المنطقة، دخلتُ لأحد محلات العطور العربية، ابتعتُ مسكاً أبيضاً لأمي، وعدتُ أدراجي إلى الفندق، واصلتُ القراءة، وأنا هنا الآن: “في ذلك العنف المدمر الذي يسمى الحب، وجدتُ نظيري.”
الجمعة 31/11/2107:
تأخرت في الاستيقاظ، أحب أن أنام هنا، حتى هذا الغياب، لا ينمو سوى في مكان بعيد. منفصل تماماً عني كما يبدو، و يألف أماكنه الخاصة. ارتديت ملابسي، قميصٌ مخطط، وقبعة شتوية. التقيت أصدقائي عند شاطئ سوق شرق، مشينا، شربنا القهوة، تحدثنا عن آخر مضادات الاكتئاب التي جربناها، وآخر محاولات الانتحار، والكراهية التي نكنها لأنفسنا، وتوقفنا عن الحديث كثيراً وكان أحدنا في كل مرة يستدرك هذا الهدوء العاصف بقوله: “خلصت السوالف”؟، دافعاً ايانا للبدء من جديد، لعدم الاستسلام لذلك اليأس الذي نعرف جميعاً أنه يبعدنا عن كل شيء، حتى أقرب الناس إلينا. تناولنا العشاء كعادتنا السنوية في مطعم آسيوي، أحببتُ السوشي لهذا في البداية، وكان عبد الله يلح عليّ أن أجرب الحساء، فعلت بملعقة واحدة من طبقه. كان هذا كافياً ليكون يوماً رائعاً، من بين الأشياء اللازمة في اجتماعاتنا الحديث عن حنة مينة كاتب عبدالله المفضل، وعن اختلافاتنا، أنا ومبارك نتشابه أو لا نفعل، عبدالله يرى أننا جبناء، كم دواءً يأخذ في اليوم؟ السكري، القلق، نوبات الذعر، علب التونة في غرفته، الشهر الذي قضاه دون أن يحدث أحداً في البيت، الأب الذي يسأل دوماً عن زواج عبدالله المتأخر، لماذا لم يحضر جابر اليوم؟ لماذا لا أدخنُ السجائر الإلكترونية؟ هل تريدين معطفاً إضافياً؟ يتنازل عن سترته، تبدين أحلى، نقعد والا نمشي بعد؟ مبارك قضى الصيف في الجزائر، تطوع لتعليم اللغة العربية، في إجازة الصيف، لم يكن سعيداً، لا يكون سعيداً أبداً، لكنه يتذكر أشياء جيدة، هل يعلمني العزف على “اليوكليلي”؟
السبت 1/12/2017 :
صوت الديك الذي يأتي من خلف النافذة الآن، متسللاً لهذه الغرفة الفندقية الصغيرة والتي تطل على استحياء على شاطئ الخليج، تشككني في معرفتي بهذه المدينة، فأين يقضي الديك حياته وسط هذه الشوارع المزدحمة ليل نهار، وعندما يصيح بأعلى صوته، لماذا لا يرده ذلك البرج، قميئا وحيداً وبلا صدى. هل أعرف الكويت حقاً؟
بدأت الصباح بسماع فيروز وهي تغني “لا يدوم اغترابي” كمحاولة لأن أصدق بأنني على أقل تقدير في هذه اللحظة، أنتمي لألفة هذا المكان، الذي أعرف جيداً أنه ليس جزيرة على ساحل نافاجيو اليوناني، ولا قرية ريفية في إنجلترا، لكن ذاكرتي، توقفت فيه، أشبُه إلى حد ما، بلادي، التي لا شيء فيها، لا أحزاب سياسية، ولا صراعات، لنسجل بها تواريخنا الشخصية وذاكرتنا، إن الأيام تمر فحسب، متشابهة بافتعال، أما هنا، فكل شيء يُعد عتبةً بالنسبة لي، هواء السنترال الذي يتحرك بسرعة متوسطة لكنه لا يجفف دموع لقاء الحبيب الأول بجانبه، رصيف منطقة الأبراج التي انتظرت فيها أصدقاءً كنتُ أظن أنهم سيخلفون وعدهم ولم يفعلوا، عشب شاطئ الشويخ البارد، والذي يمكن دوماً أن أتمدد فيه للمرة الأولى لخاطر نجمة في السماء كانت تستحق أن أنظر إليها وجهاً لوجه. فنجان القهوة الأول في ستاربكس المحاذي لسكن الجامعة، درجات الحرارة المنخفضة وثقل حركاتي، الحمى التي تشعرني بجسدي كله كما لو أنها دغدغة. أتذكر جيداً كما لو أنه يحدث في هذه اللحظة، مذاق الذرة الحلوة في ملاهي الكويت، عندما كنتُ أتفحص قلادة مقسومة إلى نصفين، بدر، يصير هلالين، واحدٌ لي، والآخر، لك.
عندما حلت الظهيرة كنا في الجامعة، أشركني مبارك في لجنة التحكيم على مسابقة في نادي فصيح التابع لقسم اللغة العربية في كلية الآداب، ضحكتُ كثيراً في سري على الوقت الذي مر لأن أكون أمام لجنة التحكيم لا على مقاعدها، وأنني لم أكبر كثيراً، ولم أتعلم كثيراً، ولم أبتعد الى هذا الحد أبداً.
في المساء، التقيت بمبارك وعبد الله وتحرير وزوجها جابر، في شقة الأخير، بينما تقضي زوجته الوقت في بيت عائلتها، لولادتها ليلى. كان وقتاً مسروقاً من القتامة التي نتفق عليها نحن الأربعة، نمتُ على الأريكة دون أن أحس، كان مبارك قد أطفأ الأنوار، وأغاني بوب ديلان تصدح من تلفون عبدالله، لم يصدروا صوتاً حتى استيقظت، كانوا يحضرون لي العشاء
الأحد:2/12/2017
استمع الى اغنية” مثل امرأة” لبوب ديلان، وعندما يقول تبكين مثل طفلة، ينفرط كل شيء.
الاثنين: 3/12/2017 – يوم المغادرة:
تتعبني هذه العلاقة؟ أعذب نفسي بالسؤال عن جدوى هذا كله؟ إثارة الذكريات، كأن المستقبل لا يعني شيئاً على الإطلاق، الكويت، كم أنا مملة مرة أخرى، يحضرني على الفور مقطع من نص طويل لعبدالله حبيب عن الحب، أحتفظ به في مذكرة الهاتف، “المشابك السوداء الصغيرة التي تشبكين بها شعر رأسك (أحتفظ ببعض مما تنساه خصلاتك على أصابعي، أو على السرير، أو على الكنبة، أو بين دفَّتي كتاب، وتفتح ذاكرتي آهاتها الملتاعة بأسنانك وهي تفكها وتغلقها على عجل في زياراتك السَّريعة، توزِّع الفوضى العنيفة والرائعة على الوجود والكائنات، تماماً كاللحظة التي يغطي فيها شعر رأسك وجهينا كي لا يرى أحد ما تفعله شفاهنا بالظمأ للنار.” أفعل هذا كله، الحديث عنكِ كأنني وحيدة، وهذا العالم يخلو من أي شيء آخر، لن يسمعني أحد، كل شيء هو مشابكك المتناثرة، كل شيء هو شعَرك، أما وجهينا، فيقبلان بعضهما دون توقف.
دعينا لا نودع بعضنا كما لو أنني لن أعود.
من مكتبات الكويت هذه المرة، ابتعتُ قلادة لوحة الوجه الذابل لسلفادور دالي، وعلقتها على عنقي فوراً، وأخذت مختارات أدونيس من شعر السياب، ومجلد عن المدارس الفنية حول العالم، وكان بجانب مكتبة “ميوز لاونج” محل ورد، أخذت منه وردة واحدة، لكن صاحب المحل عندما سمع لكنتي، أهداني إياها، كانت زنبقة صفراء، ولأنني خرجتُ من الفندق نهائياً، وضعتُ حقيبة السفر في سيارة مبارك التي أعارني إياها، ذهبتُ للأفينيوز، جلستُ في الطابق العلوي من ستاربكس جراند افينيو، المكان الذي قضيتُ فيه أوقاتاً طويلة، قرأتُ وكتبت بعض الملاحظات ليومياتي، تناولتُ العشاء هناك، وكان البرد قارساً، وشعرتُ بصداع شديد، غادرت إلى المطار، والتقيتهم هناك، كانوا بانتظاري، شربنا قهوتنا معنا، وتحدثنا عني، عن حماقاتي كما يليق تماماً بلقائنا الأخير قبل العودة، ثم تركتهم وعدت.
مخرج: “عندما فتحت عينها لمع داخلها حزن قديم، لكنها كانت قد استعادت نفسها من مكان لا ترغب في العودة إليه بذاكرتها. وكان واضحاً أنها تجاهد لتهرب من الألم، ولتدخل مجدداً إلى المنطقة التي تجد فيها الحياة محتملة.”
أمل – ديسمبر – ٢٠١٧
5 فيفري، 2019 at 11:11 ص
يالله! ما أبدعَ هذا الكلام!
أرجوك يا أمل لا تتوقفي.. حباً وكرامة لا تتوقفي.
إعجابإعجاب
5 فيفري، 2019 at 11:11 ص
شكراً صديقي ❤️
إعجابLiked by 1 person