كنتُ أعود من العمل عند الثانية ظهراً، وعندما أفتح باب الشقة التي تبلغ أجرتها ربع الراتب الذي أتقاضاه، لكنها تفصلني عن التجمعات السكانية في مسقط، تقع عيني فوراً على المكتبة، ممتدة لأمتار، والكتاب الذي ألمحه هذه الأيام “ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ” أنطولوجيا الشعر المصري الحديث، نسختان بجانب بعضهما، واحدةٌ لي والأخرى لفاطمة التي لم يعد لها وجود في حياتي. ومثل سلوك قهري لا أتفادى النظر إليه كل مرة.
اشتريتُ هذا الكتاب من متجر للكتب اسمه الديوان بجانب مكتبة الإسكندرية، وكنتُ قد وصلتُ للمكتبة مشياً على الأقدام لمسافة ثلاث كيلو مترات من الفندق الذي قضيت فيه أسبوعاً في مصر، وضعتُ الكتاب في حقيبة الظهر لكنه كان ثقيلا للغاية، ثم أمسكتُ بنسخة واحدة، وكنتُ كلما توقفت في مكان، قرأت مقطعاً شعرياً من الكتاب، بعبثية ودون نية للقراءة المستمرة، نسخةٌ واحدةٌ للطريق، ونسخة أحملها فوق ظهري.
أكوامٌ من الكتب الملقاة على الأرض، متروكةٌ بعناية من ينتظر مصيراً ما، سأجمع كل الكتب التي لا أعتقدُ أنني أحتاجها الآن، وسأرسلها لبيت عائلتي في القرية، غرفتي هناك قد تحتمل هذه الكتب لبعض الوقت، سأتخلى مثلاً عن قصة الفن، وقبعة فيرمير، ورواية تدبير منزلي، ربما أتنازل أيضاً عن كتاب شعرية التمرد، وطريق التبغ، ولا تنبت جذورٌ في السماء، لكنني أقفُ أمام نسختين من ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ ، وأترك صناديق الكتب في مكانها وأخرج.
عندما بدأنا بقراءة الشعر الحديث، كنا ندسُ رؤوسنا الهشة في عزلةٍ باردة، لم يكن لذلك إسمٌ بعد، مرةً كنا نرددُ مقطعاً لأدونيس من “أول البحر آخر الجسد” “جاءت ، أم الحلم أغواني/ سألتُ ندى/ كيف مشى إلى جواركِ ورد البيت والشجر؟” ظلُ أصواتنا، صوتها الحاد، الراء المترددة في نطقي، كل هذا لم يعد كافياً؟ وبعدها بدقائق فقط، أجدُ نفسي أمام البناية التي سكنا فيها معاً، وأستغرق في تأملها، تبدو لي لصيقة البنايات الأخرى، لا تتراجعُ عنها، نوافذُ مربعة، إعلانات شقق مؤجرة، لافتةٌ كبيرة لمحل أشمغة الرجال، وعلى ارتفاع ثلاثة طوابق، من نافذة الشقة نفسها، تتدلى قماشةٌ مغبّرة برقم غرفة شاغرة. أعود أدراجي إلى صناديق الكتب، أبتلع دواءً مهدئاً، مثل من يتقن لعب دوره، وأترك الكتب في مكانها، لا أتخلى عن شيء ولا أزيد شيئاً.
أتمنى لو أن الطقس مطيرٌ هذه الليلة، لكي يبدو هذا كله منسجماً، شيء يتربص بي في بيتي، ولا أريد التخلي عنه. لكن الجو معتدل، وما زال تورطي بهذا كله تاماً. تصلني رسالةٌ من مديري في العمل، ينبهني لمرة أخرى لصياغتي للخبر، أستخدم دائما فعلاً مضارعاً في الوقت الذي ينبغي فيه أن أتحدث عن شيء في الماضي، ألا يبدو هذا ساخراً؟ ألا يبدو متكلفاً لأنه جاء الآن على وجه التحديد. ثم لماذا لا أُعرض عنهما بالنظر إلى الجدار، أو كتاب “الولع بالزنبق” الذي ما زال بغلافه الشفاف منذ اشتريته قبل أعوام، لماذا سطوة الكتابين، وهذا التناحر المتبادل؟
هل هو موعد دورتي الشهرية؟ أم لأنني أخرتُ موعد الدواء ليلة البارحة لأربع ساعات؟ هل لأن فاطمة تقرأ الشعر الحديث في جو مطير في باريس هذه الليلة بينما تشاركُ في وفد رسمي من مسقط، وقد قرأتُ الخبر عرضاً، هل لأن هذا كله مصطنع بما يكفي ليبدو هذا اليوم مختلفاً وذو معنى؟ أم لأنني اليوم، اليوم فقط، لم يعد ممكناً لي أن أقرأ الشعر بعد. شيءٌ ما ذهب كما يذهب المطلق، كما يصبحُ الأبدُ شيئاً متقطعاً، شيئاً موزعاً، حتى لا يكاد يُرى. هل لأنني أدركُ أن الأبد إن عنى شيئاً فلن يكون غير هذه الوحدة المغلفة بالخزي.
13 مارس، 2019 at 7:34 ص
“كنا ندس رؤوسنا الهشة في عزلة باردة.
لم يكن لذلك اسمٌ بعد”
♥️♥️♥️ يا رب الرقة والجمال
إعجابLiked by 1 person
14 مارس، 2019 at 10:16 م
❤️
إعجابإعجاب